زيادة جديدة ب 400 للجنيه.. أسعار الذهب اليوم الإثنين بالصاغة وعيار 21 الآن بالمصنعية    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأثنين 16 يونيو 2025    طهران تهدد بحرمان دول المنطقة من استخدام المنشآت النفطية الإيرانية    نشوة البداية وخيبة النهاية.. لواء إسرائيلي يكشف عن شلل ستعاني منه تل أبيب إذا نفذت إيران خطتها    اعتقال عميلين للموساد بحوزتهما متفجرات ومسيرات في إيران    القوات الإيرانية للمستوطنين: غادروا الأراضي المحتلة فورا فلن تكون صالحة للسكن    ترامب: آمل في التوصل لاتفاق بين إيران وإسرائيل.. وسندعم تل أبيب في الدفاع عن نفسها    سيميوني بعد رباعية باريس: الخصم كان حاسمًا.. وانتهيت من الحديث عن التحكيم    مجموعة الأهلي| شوط أول سلبي بين بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    ميدو: أبو علي يتحمل مسئولية إهدار ركلة جزاء الأهلي أمام إنتر ميامي    إمام عاشور: ما حدث ليس غريبا على بيتي الأهلي.. وسأعود أقوى    نشرة أخبار الأهلي في أمريكا: صدمة تريزيجيه.. وغضب الخطيب وأزمة بن شرقي    «بيفكر في نفسه».. أحمد بلال يفتح النار على نجم الأهلي    فينيسيوس: نسعى للفوز بأول نسخة من مونديال الأندية الجديد    مصرع 4 أشخاص في حادث انهيار مدخنة مصنع طوب بالصف    وفاة تلميذ متأثرًا بإصابته بلدغة ثعبان في قنا    متابعة دقيقة من الوزير.. ماذا حدث في أول أيام امتحانات الثانوية العامة 2025    شركة مياه الشرب بكفر الشيخ تُصلح كسرين في خط مياه الشرب    رجال الأعمال المصريين الأفارقة تطلق أكبر خريطة استثمارية شاملة لدعم التعاون الاقتصادي مع إفريقيا    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل الدراسة في فارم دي صيدلة إكلينيكية حلوان    ختام فعاليات اليوم الأول من برنامج "المرأة تقود" بكفر الشيخ    سعر الفراخ البيضاء والبلدى وكرتونة البيض بالأسواق اليوم الإثنين 16 يونيو 2025    محافظ قنا يقود دراجة عائدًا من مقر عمله (صور)    خبير اقتصادي: مصر تمتلك الغاز الكافي لسد احتياجاتها لكن البنية التحتية "ناقصة"    مباريات كأس العالم للأندية اليوم الإثنين والقنوات الناقلة    بى إس جى ضد أتلتيكو مدريد.. إنريكى: نسير على الطريق الصحيح    سمير غطاس: إيران على أعتاب قنبلة نووية ونتنياهو يسعى لتتويج إرثه بضربة لطهران    إعلام إيراني: إسقاط مسيرات إسرائيلية شمال البلاد    رابط نتيجة الشهادة الإعدادية 2025 الترم الثاني محافظة القاهرة.. فور ظهورها    «بشرى لمحبي الشتاء».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الإثنين: «انخفاض مفاجئ»    تحريات لكشف ملابسات انهيار مدخنة مصنع طوب ومصرع 3 أشخاص بالصف    رصاص في قلب الليل.. أسرار مأمورية أمنية تحولت لمعركة في أطفيح    حريق داخل مدينة البعوث الإسلامية بالدراسة    وزير الثقافة يشيد ب"كارمن": معالجة جريئة ورؤية فنية راقية    ليلى عز العرب: كل عائلتى وأصحابهم واللى بعرفهم أشادوا بحلقات "نوستالجيا"    يسرا: «فراق أمي قاطع فيّا لحد النهارده».. وزوجها يبكي صالح سليم (فيديو)    علاقة مهمة ستنشئ قريبًا.. توقعات برج العقرب اليوم 16 يونيو    «الأهلي محسود لازم نرقيه».. عمرو أديب ينتقد حسين الشحات والحكم (فيديو)    حدث بالفن | وفاة نجل صلاح الشرنوبي وموقف محرج ل باسكال مشعلاني والفنانين في مباراة الأهلي    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    عانى من أضرار صحية وتسبب في تغيير سياسة «جينيس».. قصة مراهق ظل 11 يوما دون نوم    سبب رئيسي في آلام الظهر والرقبة.. أبرز علامات الانزلاق الغضروفي    لدغة نحلة تُنهي حياة ملياردير هندي خلال مباراة "بولو"    صحة الفيوم تعلن إجراء 4،441 جلسة غسيل كلوي خلال أيام عيد الأضحى المبارك    عميدة إعلام عين شمس: النماذج العربية الداعمة لتطوير التعليم تجارب ملهمة    الثلاثاء.. تشييع جثمان شقيق الفنانة لطيفة    غرفة الصناعات المعدنية: من الوارد خفض إمدادات الغاز لمصانع الحديد (فيديو)    "نقل النواب" تناقش طلبات إحاطة بشأن تأخر مشروعات بالمحافظات    عرض «صورة الكوكب» و«الطينة» في الموسم المسرحي لقصور الثقافة بجنوب الصعيد    3 طرق شهيرة لإعداد صوص الشيكولاتة في المنزل    كيف تنظم المرأة وقتها بين العبادة والأمور الدنيوية؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    صحيفة أحوال المعلم 2025 برابط مباشر مع الخطوات    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سمر طاهر تكتب .. بالميّت!

ما أن انتهى الشيخ من تلاوة الآية الأخيرة من سورة البقرة، حتى سالت على وجهى دمعة، تلك الدمعة التى حاولت منعها من اللحظة الأولى التى جلست فيها بالعزاء، ثقل كبير يقطن بداخل صدرى، ليس حزنا، لكنه شىء آخر.. غضب؟
لن تصدق الموجودات حولى أننى أبكى من الغضب، فى عزاء سيدة مسنة، عموما فإن دموعنا تسعفنا على تحسين هيئتنا فى هكذا مناسبات، تجعلنا نبدو مهتمين وعاطفيين، دموع تجميلية، حتى لو كانت قد ذرفت لغير ذى سبب.
اقترحت صديقة أن نذهب لشرب القهوة فى مكاننا المفضل، والقريب من بيت نهلة، كم أنها فكرة غير ملائمة، ستجعل هيئتنا سيئة، غير متعاطفين، وجلودنا غليظة، إلا أن نهلة، على غير ظنى، سرعان ما وافقت! قلبها قوى صحيح..
فى المقهى نظرت لنهلة من رأسها لقدميها، ترشف مشروبها الدافئ، لقد طلبت كاكاو دافئا، وليس قهوة، نظرت لها بينما ترشف وتتحدث بهدوء وسط دموعها، ذكرتنى بالأفلام الأجنبية، حيث يبكى الأبطال على موت أقاربهم فى سكون وأناقة، كأن هناك بروتوكولاً خفياً يجبرهم، أو إيماناً عميقاً يغمرهم ويهدئهم، بل قد يبتسمون أيضا، كأنهم يتذكرون "محاسن" موتاهم.
طبعا نهلة تتذكر محاسن والدتها، فقد كانت صديقة لها، على عكس أمى، الله يرحمها..
ابتسمت للكلمة الأخيرة التى خطها عقلى لا إراديا، سريعا ما تمتمت لنفسى "الله يديها الصحة"، كأنها تجلس معى لتراقب أفكارى، وأخشى غضبها.
أظن أنى سأبكى بعد موتها بصوت عالٍ، وأتأوه، وربما أصرخ.
طردت الخاطر ووقعت عينى على ملابس صديقاتى، المشغولات الذهبية وقطع الألماس تتلألأ فوق الملابس السوداء ذات الماركات الباهظة، تذكرت كلام جدتى، العزاء مناسبة مهمة للتزين وإظهار المستوى الاجتماعى لمعارف الميت، نظرت للسوار الضخم باهظ الثمن فى يدى اليسرى بفخر.. لقد قمت بالواجب وزيادة..
قطع تدفق أفكارى صوت نهلة، وهى تخبرنا عن مدفن والدتها، وكيف أنها قد اشترته بالضبط قبل موتها بشهرين فى مدافن طريق الواحات، أفضل مكان بدون جدال، وكل جيرانهم فى "نيو جيزة" اشتروا مدافن هناك، وسعر المتر يرتفع كل يوم، حتى أن نادى الجزيرة قدم تسهيلات لأعضائه لشراء قطع أرض بالتقسيط..
-"الحمدلله أن ماما اشترت هناك ولولا ذلك كانت ستدفن فى المدفن القديم فى البلد"
حركت جميع السيدات الجالسات أفواههن، تعجبا، وتسبيحا، أو ادعاءً، ولسان حالهن يقول:
-" يا سلام، كانت حاسة، سبحان الله".
نهلة ممتنة جدا لدفن والدتها هنا فى القاهرة، هكذا سيسهل عليها زيارتها.
دموع نهلة تبدو غريبة، ليست غضباً بالتأكيد، ولا حتى حزناً، ربما شجن، ابتسامة، ذكريات طيبة، لا أعرف، لكنها دموع مايعة، ليست كدموعى التى ذرفتها منذ قليل بالعزاء.
قالت صديقة بينما نحن نهم بمغادرة المكان، أن علينا كلنا شراء مدافن، فعمرنا لم يعد صغيرا، نظرت لصدرها، ففهم الجميع ما تقصده، ربما فعلا ترهلنا بفعل الزمن.
انفجرن جميعا فى ضحك متواصل بلا سبب.. ابتسمت.
.....
على سريرى أخلع حذائى بهدوء، أنظر لنفسى بثوبى الأسود الأنيق فى المرآة، الفستان يجعل قوامى ممشوقا ولا يظهر تهدلاً أصابنى، لكن لا أظن أننى لا أزال جميلة، الحزن يسرق البهاء.
شعرت بالامتنان لأحداث اليوم، فالعزاء فرصة جيدة للبكاء، بدون التعرض للسؤال أو الحاجة للتبرير.
وصل لمسامعى صوت كرة قدم تقفز وتخبط الأرض عدة مرات، كتمت غضبى، ومن النافذة رأيت ياسين فى الحديقة، ومعه ولد آخر من أبناء الجيران، ابتسمت عندما رأيته سعيدا، وتجاهلت الاستفزاز الذى تسببه لى صوت الكرة. يلعب ببراءة وحماس، كأن الحياة ملكه.
هل سأموت يوما وأتركه، هل سأدفن بعيدا عنه، هل سيزورنى..وهل..؟
هززت رأسى وطردت الأفكار سريعا، كم أكره المناسبات التى تذكرنا بفكرة الفراق.
......
فى الصباح، فى بيت أمى، أشرب الشاى فى بلكونة شقتها وانظر لحديقة الحيوان. أتشاغل بالنظر للشارع عن أسئلتها وتعليقاتها ولومها لى ولخادمتها السمراء على حد سواء، والذى لا تسميه لوما، لكنه مجرد كلام عادى، "ومحدش بيزعل منه غيري".. حتى الخادمة لا تغضب من نعت أمى لها ب"السوداء".
ربما العيب فىَّ بالفعل، بالتأكيد أمى تعرف أكثر.
زيارتها عبء علىَّ، لكن لا مشكلة، ساعة فى الأسبوع، مقدور عليها، سامحنى يارب، فشعورى ليس بيدى.
وبينما هى تكمل حديثا لا ينقطع، كنت أنا قد سافرت بعيدا لمدافن عائلتنا، هل سأدفن بجانبها بعد عمر طويل، هل ستكون وقتها بنفس درجة الإزعاج والضجيج.
نظرت لها، لا تتوقف عن الكلام واللوم، ونظرت لجسدى الكائن إلى جوارها، أحاول أتخيله راقدا بجوار جسدها.. بعد عمر طويل..
أجفل من مجرد الخيال.. أنا أطول منها، لكننى قزمة بجانبها.
لا أكرهها، لكنها تثير توترى وشعورى بالذنب، لا تفهمنى، وتعتقد أننى لا أفهمها، ربما كانت تستحق ابنة أفضل منى، ربما يجب أن أكرهها..
أفقت على صوتها تسأل عن حال حاتم، وإذا كان بخير.
.....
حاتم؟
نظرت للحظة لا أفهم السؤال، هل هى فعلا تريد أن تعرف أحوال حاتم، أم تريد أن تسمعنى أتكلم عنه ولو باقتضاب كى تطمئن نفسها بأن كل شىء بينى وبينه على ما يرام، وأننى نسيت موضوع الطلاق.
كرَرت السؤال، فاكتفيت بأن أهز رأسى وأتمتم بكلمات لم أفهم معناها لكن يبدو أنها كانت كفاية لطمأنتها، سألتنى أيضا عن أحوال حماى وحماتى، تسرعت وقفزت من فمى كلمات غاضبة، ففى آخر مرة قابلتهما على الغداء انتقدت والدة زوجى تصرفات وشقاوة ياسين، وانتقدتنى أيضا لأنها شمَّت فى كلامى لوماً لابنها حاتم، زوجى، عندما ذكرت لها سفره الدائم ففهمت إشارتى لتقصيره فى تخصيص وقت لنا.. دافعت هى عنه ولامتنى.. هى لا تنصفنى أبدا..
-"كيف ستنصفنى إذا كانت أمى نفسها لا تنصفني"..
هكذا فكرت لكنى لم أخبر أمى بخاطرى الأخير..
قذفتنى أمى بوابل من كلمات اللوم تعليقا على شكواى من أهل حاتم، ومع أنها لم تحب أهله يوما إلا أنها اتهمتنى بعدم الحنكة فى التصرف معهم.
بدأت أدافع عن نفسى، رغم أنى كنت قد قررت ألا أدافع عن نفسى أبدا عندما تلومنى، لكننى فعلت رغما عنى، كطفلة جوعى لنظرة رضا، تريد تبرئة ساحتها أمام أمها..
لم تستمع إلىَّ وأنهت كلامها بقرار حاسم:
-"حماتك عندها حق، أنتِ اللى غلطانة"..
أدارت وجهها لتنادى خادمتها لتحضر المزيد من الشاى والبسكويت، وأكملت كلامها بطريقة اعتيادية معى عن ابنة خالتى وخطيبها، وابن خالة والدتها، وابنة عمة فلانة، وعن العائلة كلها.
فكرت أن حماتى أكثر رأفة من أمى، على الأقل هى تحب ابنها وتدافع عنه، بالتأكيد سأدافع عن ياسين لو لامته زوجته، شىء طبيعى.. لكن ما تفعله أمى يغضبنى، فهى محامى الخصم بمناسبة وبغير.. خنقتنى تلك الفكرة.
شعرت بالاشتعال، قاومت إحساسى تجاهها، ولم أسمع كلمة واحدة من باقى ثرثرتها، حتى قطعت أفكارى كلمة "أبوكى" على لسانها، ولم أتبين السياق الذى كانت تتكلم عنه، لكن انتبهت لها، فكرت أن أسألها عما قالته للتو لأننى لم أسمع جيدا، لكننى تراجعت لأننى لا أحتمل أى لوم آخر.
وجدت نفسى أخبرها:
-"أنا رايحة لبابا بكرة"..
.....
فى الصباح كنت أقرأ الفاتحة أمام قبره، وأدمع، أتذكر خفة دمه وحكاياته، وحتى مقالبه.. أفتقده جدا.
بينما هى بجانبى تتفقد أحوال المدفن، وتنظر لدموعى باستغراب:
-"بتنهنهى على إيه؟"
أخذت نفسا عميقا ولم أرد، أخبرتها بعد دقائق أننى أشم رائحة غير طيبة بالمكان، فنفت بحركة من رأسها بحسم وبغير تفكير:
-"مفيش ريحة"..
أمر متوقع، أى أمر أقوله، خطأ.
تجولنا بالمدفن، وازداد شعورى بالرائحة الكريهة، تذكرت أنها ربما فقدَت جزءاً من حاسة الشم، تعجبت، هل تقل القدرة على الشم مع الشيخوخة، مثلما تقل حاسة السمع، لا أدرى..
ربما هى تشم الرائحة لكن لا يعنيها الأمر، فهى لا تهتم بأمر أبى ولم تهتم أبدا.
-"ماما، أنا فعلا شامة ريحة، بعد عمر طويل، لو احتجنا نستخدم المدفن.. بعد عمر طويل.. هتكون مشكلة، الأحسن نشوف الريحة دى إيه.."
فجأة استيقظت لديها حاستا الشم والسمع، وكل الحواس الأخرى حتى اللمس والصراخ، ربما خافت على نفسها ومستقبلها بعد الموت والدفن!
كل شىء يجب أن يدور حولها حتى تعيره اهتماما.
نادت على الحارس، وبخته وسألته عن الرائحة، وأخبرها أن هناك شائعات بتسرب مياه مجارى، وأن أصحاب المدافن المجاورة اشتكوا بالفعل.. امتعضت وبدأت التفكير فى حلول..
لم أعرف ما الذى قررته أمى ولم أرغب فى المعرفة، فلتفعل ما تريد، بالتأكيد لن أدفن هنا بجانبها على أى حال، وبكل تأكيد لن أدفن فى مدفن زوجى وعائلته حتى لو كان أفضل مدفن فى العالم.
.....
شغلتنى الفكرة أياما طوال، وأنا أتناول طعامى مع ياسين، وأنا أحضر اجتماع الآباء بمدرسة ياسين، وأنا أسير معه فى المركز التجارى، وأنا أجلس معه فى حديقتنا نضحك ونهتم بالزهور بينما هو يقطف لى زهرة ويقبّلنى فأدمع رغم عنى.
ياسين هو الميزة الوحيدة من زيجتى البائسة بأبيه، وهو الوحيد الذى يحبنى حبا غير مشروطا.. هو الوحيد.
كم أتمنى أن أظل بجانبه حتى بعد أن أموت، على الأقل أشعر بالونس، وأسهل عليه مشوار زيارتى فى قبرى، قبرى الذى لا أعرف أين مكانه، ولا أعرف كيف سأدفن به وحدى بلا أحباب.
ياسين سيدفن بجانبى.. ابتسمت ببعض الراحة، ثم طردت الخاطر فورا..
بعد الشر عليه.. أعوذ بالله..
ربنا يجعل يومى قبل يومه.
أكيد "يومى قبل يومه" بإذن الله، هدأت للخاطر الجديد، لكن بقيت أمامى مشكلة المكان.. أين سأدفن.
لا أعلم هل فقدت صوابى أم أنه تأثير الذكاء الاصطناعى، فكل الإعلانات التى أراها الآن، هى إعلانات تروّج لمدافن فى أماكن قريبة.
لكن ولا واحد فيهم يعجبنى.. ربما سأترك الأمر للورثة، لن أشترى مدفناً وأعلمهم بمكانه، لأن الأمر صعب بالنسبة لى، سيكون مؤلماً، إذن سأسرد رغباتى وأترك الأمر لهم.. هل سأوصى ألا يدفن حاتم بجانبى؟
لن أحتاج، أعتقد أننى سأكون طُلقت قبل موتى.
فى غرفتى قررت كتابة وصيتى.. من المفيد كتابة الوصية، لا أحد يعلم موعد رحيله، والاستعداد أفضل..
الحمد لله على نعمة الوصية، والحمد لله أننى حضرت عزاء والدة نهلة، فقد جعلنى أفكر بطريقة إيجابية فى حياتى ومصيرى، وسأصل لأفضل قرار يسعدنى.. لكن ماذا أكتب..
فكرت أنى أريد مدفنًا "شرح وبرح" كبيرًا ومريح نفسيا، قريب من البيت ليسهل على ياسين زيارته، تدخله الشمس، أرضه مغطاة بالنجيل وليس التراب، وزهور بيضاء وريحان.. و.. يا سلام لو به نافورة ولو صغيرة.. و..
وقعت عينى على الحديقة من نافذة غرفتى.. بهتت للحظة..
لاحظت أننى أصف حديقتى.
تنهدت مندهشة، كم أتمنى أن أدفن وسط زهورى تلك، لن أشعر بالغربة، سأكون قريبة من ياسين، فهو سيعيش هنا بعد زواجه، سأكتب البيت باسمه، سيسهل عليه ذلك زيارتى، بل سأكون دوما بجانبه، وياسين لن يمانع.. لكن هل سترضى زوجته، لا يهم..
سأخصص طرف الحديقة كمدفن لى ولذريتى فقط، بدون حاتم، سأكون طلقت منه قبل موتى.. على ما أظن.
فكرت فى رد فعل حاتم عندما أخبره، فهو لم يطلقنى بعد، لم يعرف حتى برغبتى فى الطلاق، وقرار المدفن أهم من قرار الطلاق بالنسبة إلىَّ الآن.
لكننى أعرف كيف سأقنعه، بالمدفن أولا، ثم بالطلاق لاحقا، ربما سيعترض على الأخير، لكن لن يضيره أمر المدفن فى شىء، فالبيت ملكى، والحديقة شاسعة وأقرب للمزرعة، وسأجعل مدفنى عند طرفها، ما المشكلة؟
سمعت أن أفراد بعض العائلات العريقة يفعلون ذلك، يجعلون مقابرهم عند أطراف منازلهم..
وحتى أهل السودان اعتادوا على ذلك كما أخبرنى أبى فى طفولتى، فى مجمل حديثه عن الطرائف التى قابلته فى سنوات عمله هناك..
الآن يقفز صوت أبى إلى ذهنى فجأة:
-"ولو احتاجوا يبيعوا البيت، يجيب سعر قليل لو اتباع بالميت، فيضطروا قبل ما يبيعوه، يطلعوا ميتينهم منه".
ابتسمت، وشكرت شبح والدى، الذى أعتقد أنه زارنى الآن ليذكرنى بما قاله لى قبل أعوام طوال.
لقد وجدت ضالتى.. الفكرة مريحة وليست مزعجة كما تبدو لأول وهلة، طالما يجمع الحب بين أفراد البيت.. طالما الحى والميت متوافقين.
وأنا متوافقة مع ياسين، فأنا صديقته، ولن يشعر بتنغيص بوجودى جواره، بالعكس، سيستأنس بوجودى.
ابتسمت، لقد توصلت للفكرة المثالية، أظن أننى حتى ولو لم أعش مرتاحة، على الأقل سأموت مرتاحة، بالقرب من ابنى، نصف مشاكل العالم قد حُلت الآن.. بل كلها. أنا الآن سعيدة.
نمت لأول مرة منذ شهور بدون أن يعترينى القلق، واستيقظت بوجه مشدود خالٍ من التجاعيد..
انشغلت بتنفيذ فكرتى لأيام وأيام، أصبح المدفن مشروعى الأعظم، لم يعترض حاتم، فهو لا يبالى، أو ربما اعترض وأنا لم أكترث.
أحضرت العمال لتمييز المكان الذى اخترته من الحديقة، وأخبرت شقيقى، هاتفيا، بما فعلته، وبوصيتى..
سمعنى مستسلما ورد ببضع كلمات لا معنى لها، تماما كعلاقتنا، لكنه شقيقى الوحيد، ويجب أن أخبره.
صرت كل يوم استيقظ وأشرب قهوتى الصباحية وأنا انظر لمرقدى الأخير، لن أشعر بوحشة القبر طالما أنا فى مكان مشرق كهذا.
ربما الموت ليس مخيفا، إذا رتب الإنسان له جيدا كما فعلت.
عشت بعدها متصالحة مع نفسى، أحببت الحياة أكثر، وظننت أننى نسيت كل أحزانى، حتى جاءنى خبر وفاتها، هاتفيا.
بكيت لساعات، كنت أحبها، رغم كل شىء، ربما كنت مقصرة معها بأفكارى السيئة عنها، أشعر بالذنب الآن.
وبينما جثمانها يرقد فى غرفة نومها، جلست فى صالة منزلها أتلقى العزاء من صديقاتى المتأنقات، وعز علىَّ البكاء على عكس عادتى فى مناسبات كتلك.
ظلت خادمتها تتجول بيننا وتتحدث بلهجتها الغريبة، وتحكى كيف ماتت أمى بلا سبب، وبلا مقدمات، حتى أنها كانت تأكل بسكويتها المفضل فى شرفتها بابتهاج، وابتلعت آخر قطعة ثم ابتسمت وأغمضت عينيها مودعة الحياة..
ابتسمت صديقاتى، واعتبرن أن موتها فى منزلها معززة مكرمة شبعانة، علامة رضا وستر إلهى.
يقترب شقيقى مقتحما الجالسات، يهمس فى أذنى أن الأوراق الرسمية جاهزة، وأن الغُسل بعد قليل، أشعر بالامتنان لأول مرة بأن لى شقيقا أكبر،
ربما تلك هى المرة الأولى التى يسندنى فيها.. كل شىء بأوان..
لكنه يقطع أفكارى بكلمة يهمسها فى أذنى:
-إيه البديل؟ ما مدفن بابا مش هينفع.. مفيش حل تانى..
قبل أن أرد يعاجلنى قائلا إن حاتم نفسه قد وافق..
-"كتر خيره.. ابن حلال.. حل لنا المشكلة"..
تبرعت نهلة صديقتى بالكلام، والإطراء على الفكرة..
أما باقى النساء، فقد حركن أفواههن، تعجبا، وتسبيحا، أو ادعاءً، ولسان حالهن يقول:
- "يا سلام، كأنك كنتِ حاسة! سبحان الله".
أشعر أنى أفقد قدرتى على السمع وعلى الكلام.
.....
فى الصباح، أجلس فى غرفتى أشرب كاكاو دافئاً على غير عادتى، ولا أبكى، فقط أمد بصرى من النافذة..
هنا يرقد جثمانها.. وسيرقد إلى الأبد، هنا أمامى، وفى منزلى..
ستكون تحت بصرى وسيكون علىَّ أن أتذكرها كل يوم.
أحسد أبى على السكون الذى يتمتع به بمرقده الأخير.. ربما تلك دعابة أخيرة من دعاباته الثقيلة.
هل كان يقصد بابا أن يفعل ذلك بى حقًا لينعم هو بالسكون فى مرقده بعيدًا عنها؟
أترك كوب الكاكو الدافئ، وأقف متطلعة إلى هناك، إلى طرف حديقتى، أحاول البكاء كما نصحنى طبيبى، لكن بدلا من أن تنزل دموعى، تخرج صرخة مخيفة منى، أبعثها لجثمانها، فترج صمت المكان.
إقرأ أيضاً : منى ‬فتحى ‬حامد تكتب .. عيناه فى عينى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.