نظل في كثير من الأحيان أسرى لمقولات تبدو كالحقائق الطائرة في الهواء دون دليل ومنها أننا شعب لا يقرأ، غير أن هذه المقولة قد لمست بنفسي ما يناقضها، فقد أعدت جريدة الإندبندنت البريطانية استطلاعا على مستوى العالم حول أكثر الشعوب قراءة، اعتمادا على معدلات القراءة للفرد، وهو الاستبيان الذي شمل كل دول العالم، وكانت نتيجته التي اعتبرها الجميع مفاجأة مذهلة، على الرغم من أني صدقتها للوهلة الأولى، ومن هذه النتيجة أن المصريين يحتلون المركز الخامس على مستوى العالم من حيث معدلات القراءة، والمركز الأول عربيا، وأن مصر تسبق فرنسا التي تحتل المركز السادس، وهو الأمر الذي استمر حتى الآن، حيث أجرت مجلة CEO WORLD - المتخصصة في التصنيفات العالمية – هذا العام دراسة حول أعلى الشعوب العربية في معدلات القراءة، لنكتشف أن المصريين يقرؤون بمعدل قراءة مائة وواحد وعشرين ساعة للفرد سنويا، أي إن المصريين يقرؤون سنويا ما يزيد على اثني عشر مليار ساعة سنويا، وهو رقم ضخم جدا بطبيعة الحال تظل مصر تحتفظ عن طريقه بالمركز الخامس عالميا. سيقول قائل إننا نرى الأجانب يقرؤون على الشاطئ، وفي وسائل المواصلات، ولا نرى أحدا في مصر يفعل ذلك، وهو أمر حقيقي، فربما لم نعتد القراءة سوى بتركيز ومع الحفاظ على الخصوصية، ففي الحقيقة لدينا جيل كامل من الشباب القارئ الذي ضمن لنا هذا المركز، جيل مثقف يبحث عما يطور به نفسه، ويقرأ بكل الوسائل المتاحة للقراءة، ماكينة قراءة ضخمة تحتاج إلى أن نوفي احتياجاتها بمنتج جاد وجذاب ومساير لطبيعة العصر. إن مجتمع القراءة في مصر – وأعني هنا بالطبع القراءة لأغراض غير تعليمية - ينقسم إلى قسمين كبيرين أولهما مجتمع القراءة النخبوي وهو يمثل أقل من عشرين بالمائة من القراء، وثانيهما ما يمكن أن نسميه مجتمع القراءة الموازي وهو ذلك القطاع الذي تعتمد عليه قوائم الأكثر مبيعا، وهو الأمر الذي يحتم علينا إعادة النظر في الطريقة التي تتعامل بها المؤسسات الناشرة عامة أو خاصة مع جمهورها، حيث يبدو الاحتياج واضحا إلى استراتيجية لصناعة القارئ تستفيد منها صناعة الكتاب والنشر، وهي الاستراتيجية التي يجب أن توازي التطورات المعرفية وتطور الوسائط ووسائل النشر وتبني لنفسها رؤيتها الخاصة في عالم مفتوح، في ظل سقوط الأيديولوجيات الكبرى، والانفتاح الرقمي، بما يحتم علينا التوقف وإعادة النظر في الطرق التي نتعامل بها مع الوسائط المعرفية. إن التحدي الأكبر هو أن نطور من منتجنا الثقافي، ولا نترك هذا الجيل يبحث عما يشبع به نهمه للقراءة خارج حدود هذه الثقافة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تكاتف واسع المدى بين المؤسسات الرسمية الناشرة ومؤسسات القطاع الخاص، كما يحتاج إلى نوع جديد من المشروعات والأفكار ذات الصلة، لنضمن بذلك مستقبلا قائما على قراءة جادة حقيقية، أيا كان نوع الوسيط الذي تتم به هذه القراءة، وهو ما يمكن أن يفتح النقاش حول طريقة التعاون ونوعية المشروعات الممكنة مع الأخذ في الاعتبار كون النشر صناعة واستثمارا بالقدر الذي تكون فيه صناعة القارئ استثمارا على جانب كبير من الأهمية المستقبلية.