لم تستطع الأفكار المتشددة النيلَ من رحابة الوجدان المصري العام في قضية الاحتفال أو الاحتفاء بيوم "المولد النبوي الشريف". فمنذ أن عرف المصريون الإسلام وهم يحبون النبي صلى الله عليه وسلم بمشاعر استثنائية وعلى طريقتهم الخاصة، وقد وصلت هذه الحقيقة مبكراً إلى الجزيرة العربية، فنصح "ابن عباس" السيدة "زينب" -رضى الله عنهم- عندما ضاق بها الحال في المدينة بالسفر إلى مصر، وقال لها ".. إن فيها قوماً يحبونكم لقرابتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم" وشهدت عقيلة بني هاشم هذا الحب فور قدومها وأطلقت دعوتها المباركة "يا أهلَ مِصر آواكُم اللهُ كما آويتمونا، ونصركم اللهً كما نصرتمُونا". فالنبي صلى الله عليه وسلم حاضرٌ بقوةٍ في كل تفاصيل الحياة اليومية للمصريين، يصلّون عليه إذا فرحوا، وإذا ربحوا، وإذا دُهشوا، وإذا روجوا لبضاعة، وإذا فضوا مشاحنة، وإذا غمرهم النور أو داهمهم الظلام، وفي كل حركاتهم وسكناتهم، فيحتفلون بطريقتهم التي توافق مشاعرهم، بالأعلام والمواكب والحلوى والزغاريد العفوية الصافية والأهازيج التي تلهب الشوق إلى صاحب الليلة المباركة، ولا يثنيهم عن ممارسة مشاعرهم الاتهامات بالضلال والابتداع، فهم يوقنون أن ليس كل بدعة ضلالة كما يزعم الزاعمون، بل إن من البدع ما يؤجر عليها المرء باعتبارها سنة حسنة، كما أن "البديع" اسم من أسماء الله الحسنى. وثمة حقيقة تاريخية تؤكد الريادة المصرية في العشق النبوي، فلم يسجل التاريخ لكبار الشعراء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أمثال جرير والفرزدق وبشار والبحتري وأبي تمام وأبي العتاهية والمتنبي ... وغيرهم، قيام أي منهم بإنشاد قصيدة لائقة في المديح النبوي، وظل هذا الغرض شاغراً حتى القرن الثالث عشر الميلادي. وفي السابع من مارس عام 1213 ولد بقرية "دلاص" محافظة بني سويف طفلٌ يدعى "محمد بن سعيد بن حماد" والذي نسب لقرية والده "أبو صير" بمنطقة مجاورة فكان لقبه "البوصيري". تتلمذ "البوصيري" على يدي القطب الصوفي "المرسى أبو العباس" تلميذ الإمام "أبي الحسن الشاذلي"، ومنذ طفولته تملك العشق النبوي من الفتى كل جوارحه، وراح يزداد كل يوم ويبالغ في كتمانه، لأنه مثل كل أبناء الطريق يرى أن "المحبة سر بين محبوبيْن". ويسعى "البوصيريُّ" ليخرج لواعج نفسه في قصيدة قام بإنجازها، ولم يُطلع عليها أحداً، حتى جاءه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فأنشده إياها وخلع عليه النبي بردته ومن يومها سميت القصيدة ب "البردة المباركة" وتلقفها المحبون. مئة وستون بيتاً هي عدد أبيات القصيدة كفيلة أن تغمر النفس بشلالات من الروحانية والسكينة وتحلق بها في عوالم خفية ناضرة لا يرغب المحبون في استجلاء غموضها وإنما يهيمون في هذا الغموض المبدع ٍالذي يطهر النفس من أوحال المادة وكثافتها. ففي لحظةٍ خاطفةٍ واستهلالٍ رائعٍ، ينقلك "البوصيري" من حيث كنت إلى الأجواء الحجازية بأحيائها، في مشاهد ذات دلالة، فمن التذكير بالجيران في منطقة "ذي سلمٍ" يعرج بك على "كاظمةٍ" حين تهب منها الريح وإلى "إضمٍ" حين يلمعُ في سمائها البرقُ خوفاً وطمعاً ... (أمن تذكر جيرانً بذي سلمَ / مزجت دمعاً جرى من مقلةٍ بدمِ) (أم هبَّتْ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ/ وأوْمضَ البرقُ في الظلماءِ منْ إضمِ) ويسائل العاشقُ العازم على الكتمان نفسَه (فما لعيْنَيكَ إنْ قلتَ اكْفُفَا هَمَتَا/ وما لقلبك إن قلت استفق يهمِ؟) ويتحير الرجل من حاله ويقنع أنه لا فائدة من الكتمان إذ يكشف مظهره عن مخبره (فكيفَ تنكرُ حباً بعدما شَهِدَتْ/ بهِ عليكَ عدولُ الدمعِ والسقمِ) ويقرر العاشق أن يبوح ويعترف بحبه مسلماً بثنائية اللذة والألم (نَعمْ سرى حبُّ مَنْ أهْوَى فأرَّقَنِي/ والحبُّ يعترضُ اللذاتِ بالألمِ) وما إن يَلْقِي العاشقُ باعترافِه حتى ينطلق مغترفاً لبردتهِ من حياةِ الحبيبِ وسيرتهِ ما يذيبُ به صخرَ الفؤاد، مع تهدجٍ متكررٍ بعد كل بيت (مولايَ صلِّ وسلم دائماً أبداً / على حبيبك خير الخلق كلهمِ) وعلى نحوٍ شخصيٍّ يغمرني التفاؤل حين يزهو "البوصيري" في نهايات القصيدة باسمه "محمد" ويطرحه من مسوغات القرب إلى الحبيب لعلي أنال منه قدراً (وإنَّ ليْ ذمةً منهُ بتسمِيَتِي / محمداً وهو أوْفى الخلقِ بالذممِ). وتواصل الأيقونة الخالدة إشراقها الساطع في سماء المديح النبوي مترعةً بصدقِ المصري، وشهامةِ الصعيديِّ، ونقاءِ النيلِ، وهيبةِ الأهرامات، ورسوخِ أعمدةِ الأزهر، ووعورةِ جبلِ "حُميْثرة" حيث مقام "الشاذلي"، وطراوةِ نسمات البحر الذي يقبعُ على ساحلهِ شيخهُ "أبو العباس المرسيّ" ليترنمَ بها العالمُ الإسلامي بأسره، ولتتبوأ بها مصر مكانها اللائق في صدارة المادحين في رحاب حضرة من أسماها "الكنانةَ" وأوصى بأهلها خيراً، لأن لهم نسباً وصهراً...