في خضم واحدة من أعنف الحروب التي شهدها قطاع غزة، تتصاعد مؤشرات تحوّل لافت في المزاج الدبلوماسي الدولي، وتحديدًا الأوروبي، تجاه الصراع الفلسطيني–الإسرائيلى، فبعد سنوات من التردد والمواقف الرمادية، بدأت عدة دول غربية تلمّح صراحة إلى نيتها الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، خطوة قد تبدو رمزية في ظاهرها، لكنها تحمل في طيّاتها دلالات استراتيجية عميقة قد تُحدث خلخلة في نظام العلاقات الدوليّة لإسرائيل. خمسة عشر دولة، بينها قوى بارزة مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا، أعلنت أنها تدرس بجدية اتخاذ قرار الاعتراف بدولة فلسطين، في موعد يتوقع أن يكون خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، ورغم أن البيان الصادر عنها تحدث عن دعم لحل الدولتين، فإن التوقيت والسياق لا يمكن عزلهما عن حرب غزة التي طالت وشهدت تجاوزات موثقة في القانون الدولي، ترقى لدى البعض إلى مستوى "جرائم حرب". رد الفعل الإسرائيلي لم يتأخر، وجاء صاخبًا كالمعتاد، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، المتهم في المحكمة الجنائية الدولية، وصف الاعتراف ب"عقاب للضحية"، محذرًا من أن إقامة دولة فلسطينية، لكن هذا الخطاب الدفاعي، الذي لطالما لجأت إليه إسرائيل، يبدو اليوم أقل فعالية أمام تآكل المواقف الغربية التقليدية الداعمة لها. التحليلات الإسرائيلية نفسها باتت تتحدث عن "تسونامي سياسي"، كما وصفه مراسل الشئون الدولية في القناة 12 عيران نير. والأخطر من ذلك، هو القلق الإسرائيلي من أن هذه الاعترافات قد لا تكون مجرد رمزية، بل تمهد لقرارات أشد في مجلس الأمن، أو حتى إجراءات عقابية محتملة مستقبلاً، خاصة إذا ما ترافق ذلك مع اعترافات من دول دائمة العضوية، ما يزيد من عزلة إسرائيل الدولية. لكن السؤال المشروع الذي يُطرح هنا هو: لماذا الآن؟ ولماذا هذا التحول المفاجئ في مواقف دول ظلت لعقود تتبنى خطابًا متوازنًا أو حتى منحازًا بالكامل لإسرائيل؟ الإجابة قد تكون متعددة الأبعاد، لكن في جوهرها يمكن القول إن ما يحدث في غزة قد تجاوز كل الخطوط الحمراء، وبات يشكّل عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا على الحكومات الغربية، خاصة مع تصاعد الضغوط الشعبية الداخلية، من قطاعات واسعة بينها مسلمون، شباب، ومناصرون لحقوق الإنسان، يرفضون الصمت الغربي المريب إزاء مأساة شعب يُحاصر ويُجوّع ويُقصف أمام أعين العالم. لكن هناك ما هو أبعد من مجرد التعاطف؛ أوروبا بدأت تخشى على نفسها. الخوف من أن تتورط في نتائج سياسات إسرائيلية متطرفة تدفع نحو ضم شامل للضفة وغزة، أو تؤجج موجات جديدة من اللجوء والهجرة، دفعها إلى محاولة "إنقاذ إسرائيل من نفسها" كما وصف نير بمرارة، في اعتراف ضمني بأن الغرب لم يعد قادرا على لعب دور المتفرج المحايد. في المقابل، فإن أطروحات يمينية متطرفة مثل تلك التي كتبها السفير الإسرائيلي السابق في إيطاليا، درور إيدار، تكشف حجم الرفض الإسرائيلي لأي تسوية سياسية حقيقية. إيدار لم يكتفِ بمعارضة الدولة الفلسطينية، بل دعا إلى ضم الضفة وغزة، وتشجيع "الهجرة الطوعية" للفلسطينيين، في خطاب يذكّر بمشاريع التطهير العرقي لا التسويات السلمية. مثل هذه المواقف لا تترك للعالم خيارًا سوى التدخل، فالمسألة لم تعد تتعلق بصراع حدودي، بل بصراع على القيم والنظام الدولي، حيث تُختبر مصداقية الغرب في احترام القانون الدولي، وليس فقط دعم حليف قديم. الاعتراف بدولة فلسطين في هذا السياق لم يعد "منّة سياسية" بل تصحيح لمسار فشل لعقود. صحيح أن الاعترافات لن تغيّر من واقع الاحتلال شيئًا في المدى القريب، لكنها قد تعني بداية النهاية لما كان يُعرف ب"الحصانة الإسرائيلية". ومع التراكم السياسي والدبلوماسي، قد تصبح إسرائيل ذات يوم مضطرة إلى الانخراط فى تسوية سياسية فعلية، لا لأنها راغبة في ذلك، بل لأن المجتمع الدولي -بما فيه أقرب حلفائها- بدأ يغيّر قواعد اللعبة.