ما زلنا مع الحديث عما بين سطور تاريخ الحضارة المصرية القديمة، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة المقال السابق.. على الغلاف الخلفى لكتاب المقرر المدرسى لمادة اللغة العربية فى المرحلتين الإعدادية والثانوية فى فترة التسعينيات من القرن العشرين، كانت توجد قائمة من النصائح والحكم، أذكر منها تلك القائلة: صوتك العالى دليل على ضعف موقفك. أسترجع تلك العبارة فى كل مرة أصادف من يتشنجون بحجة الدفاع عن الحضارة المصرية القديمة.. خاصة هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بأبناء كِمِت.. وهم يتوسعون فى افتراض أن الكل يتآمر على تاريخ مصر.. جرب مثلا أن تتحدث أمامهم عن مرحلة الحضارة العربية والإسلامية من التاريخ المصري، ستجدهم يثورون ل«ينتصروا» للمرحلة المصرية القديمة وربما ختموا «مرافعتهم» بالقول السخيف الشائع: «كنا بخير حتى استعربونا». دعونا نتوقف قليلا عند تلك العبارة المضحكة التى لا أعرف من صاحب العقلية «الفظة» من نوعها الذى كان أول من أطلقها، فهذا العبقرى ومن يرددون عبارته خلفه بإصرار حتى الببغاوات تخجل منه، يقول إن المصريين عندما كانوا يرزحون تحت أبشع احتلال فى تاريخهم - الرومانى ثم البيزنطى - والذى لا يضاهيه بشاعة سوى الاحتلال العثمانى لاحقا، كانوا بخير، بينما غلالهم تُستَنزَف لصالح الأباطرة، وظهور فلاحيهم يجلدون لدفع الضرائب الثقيلة، ومؤمنيهم وقديسيهم يُعَذَبون ويُقتَلون لرفضهم تأليه الإمبراطور أو اعتناق مذهبه، الحقيقة أن مفهوم «الخير» عند أصحاب العبارة سالفة الذكر غريب جدا! لا أقول أن العصر العربى والإسلامى كان عصر العدالة المطلقة، بل أن بعض فتراته قد شهدت مظالم بشعة وثقيلة، ويكفى أن تقرأ عن عهد الوالى قرة بن شريك أو مظالم ابن المدبر كاتب الخراج أو عن ثورة البشامرة أو جنون الحاكم بأمر الله، لكن هذه المظالم - فضلا عن أنها طالت المصريين الأقباط والعرب على حد السواء لم تبلغ ما بلغه طغيان الرومان. ولنقف كذلك عند «استعربونا»، إن هذه العبارة مسيئة بشدة لواحدة من أعظم مزايا الحضارة المصرية - قديما وحديثا - وهى ميزة «الاستيعاب والهضم وإعادة الإنتاج»، فكلمة «استعربونا» توحى أن المصرى لم يكن له من أمر نفسه سوى أنه «جعلوه فانجعل»، بينما تعبر قصة المصريين مع اللغة عن بعص مظاهر عبقريتهم. فالمصرى القديم ابتكر لغته الأولى وكتابتها الهيروغليفية، ثم أراد الكهنة ابتكار خط لغوى أكثر عملية لاستخداماتهم فكانت الكتابة الهيراطيقية-أى الخط المقدس-وأراد العوام لأنفسهم نسختهم الخاصة البسيطة فكانت الكتابة الديموطيقية- أى الخط الشعبى - وعندما انتهى عصر الملوك المصريين القدماء وتربع البطالمة على عرش الفراعنة ليقودوا مرحلة حضارية تمتزج فيها الثقافة المصرية بتلك الإغريقية، وخشى المصريون من اندثار لغتهم أمام الغزو الثقافى، أوجدوا تزاوجا بين اللغتين المصرية واليونانية، فكانت اللغة مصرية والحروف يونانية، والتى أضيفت لها بعض الحروف المصرية لتلائم النطق المصرى.. ولأن مصر بلغة اليونانيين هى كپتوس وأهلها «قبط»، حملت تلك اللغة اسم «القبطية». وعندما صارت مصر ولاية عربية، حرص العرب أن يجعلوا إدارة دواوينها بأيدى أهلها، فكانت على القبطية لغة ديوان خراجها، حتى جاء عهد الخليفة الأموى عبدالملك بن مروان الذى كشف قيام بعض الرعايا من غير العرب فى بعض الولايات بالتلاعب بسجلان الخراج، فأمر بتعريب كل دواوين الدولة.. ولحرص الموظفين المصريين على الحفاظ على تميزهم الوظيفى، صار تعلم العربية من أولوياتهم.. ولكن، هل تبنى المصريون العربية بحذافيرها؟ لا.. بل حققوا إعجازا بالتوفيق بين مزجهم لغتهم بالعربية من ناحية،وهو ما يظهر من خلال عدد ضخم من المفردات ذات الأصول المصرية القديمة-ومن ناحية أخرى تفوقهم فى الكتابة العربية وفنونها عبر العصور، خاصة فى ما يتعلق بقراءة القرآن الكريم الذى لا أرى فى العالم مدرسة تنافس القراءة المصرية له. إن عملية الهضم والاستيعاب وإعادة الإنتاج هذه تتعارض فى عمقها ودلالاتها مع تلك الكلمة السطحية «استعربونا». ولنعد للتشنج، فإن هؤلاء المتشنجين هم أسوأ مدافعين عن تاريخ مصر وحضارتها، بل إنهم يسيئون لها من حيث أرادوا أن يحسنوا.. خذ مثلا تفاعلهم مع قضية المركزية الأفريقية/afrocentrism وادعاء بعض الجهلة أصلا إفريقيا أسود للحضارة المصرية القديمة، لقد راحوا يصيحون بشكل هيستيرى بلغ تجاوزهم الحد الفاصل بين خطاب الاعتزاز الوطنى من ناحية والخطاب العنصرى المتعالى من ناحية أخرى، فأنتجوا خطابا عنصريا بغيضا موجها ضد أشقائنا من الأفارقة، ومستهدفا لون بشرتهم والاستهزاء بمعاناتهم من الاستعمار الأوروبى ولكم أن تتخيلوا أثر مثل ذلك الخطاب المقزز على صورة مصر وشعبها. لماذا كل هذا التشنج؟ لدينا حصيلة نحو قرنىن من علم المصريات، ومئات الكتابات من مختلف الجنسيات، إضافة للعلوم التى خدمت البحث فى التاريخ المصرى القديم مثل التشريح والعمارة والآثار والوراثة وغيرها، على من يدعى شيئا إذن أن يتفضل بتقديم أدلة مزاعمه بينما نكتفى نحن بالتراجع فى مقاعدنا باسترخاء ونحن نضع «رِجل على رِجل»، وكلما زعم دليلا قدمنا ما يهدمه.. فلماذا نتشنج ونصيح بهذا الشكل الجنونى؟ وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.