أصدرت وزارة الخارجية المصرية، بالأمس 11 يونيو 2025، بيانا رسميا ركز على توجيه رسالة مزدوجة: تأكيد الدعم الثابت للحقوق الفلسطينية، وفى الوقت ذاته فرض ضوابط مشددة على زيارة المعابر الحدودية، فقد بدأ البيان باستعراض المواقف الدولية والشعبية الداعمة للفلسطينيين ورفض الحصار على غزة، مؤكداً استمرار مصر فى العمل لإنهاء العدوان الإنسانى على القطاع، وفى نفس الوقت شدد على أن كل زيارة للمنطقة الحدودية مع غزة يجب أن تحصل على موافقات مسبقة "عن طريق التقدم بطلب رسمى للسفارات المصرية فى الخارج أو عن طريق طلبات من السفارات الأجنبية بالقاهرة أو ممثلى المنظمات". إن مصر نظمت فعلاً، وتنظم العديد من الزيارات المماثلة – حكومية وغير حكومية ودون صخب أو شو إعلامى – خلال الأزمة، وأن السبيل الوحيد للاستمرار فى دراسة أى طلب هو اتباع الضوابط التنظيمية المعروفة، واختتم البيان بالتأكيد على تمسّك مصر بقضيتها الفلسطينية، فذكر أن "مصر تشدد على موقفها الثابت الداعم لصمود الشعب الفلسطينى على أرضه، والرافض للانتهاكات الإسرائيلية"، وأنها تعمل على الضغط لرفع الحصار وفتح المعابر للمعونات. يمكن وصف صياغة البيان بأنها احترافية ورصينة من الناحية الدبلوماسية والأمنية، فقد أعاد التأكيد على أن مصر تحافظ على توازن حكيم بين دعمها للقضية الفلسطينية وواجباتها الأمنية والسيادية، وإن ضرورة هذه الإجراءات تعكس التزام مصر بالقانون الدولى وحماية أمنها القومي، وهى ليست محاولة لإعاقة الدعم - كما يحاول أن يروج المضللون - بل تطبيق صحيح لمبادئ السيادة، إن هذه الضوابط آلية فعالة لضمان سلامة جميع الأطراف وتوجيه التضامن نحو مسارات بناءة دون الإضرار بالأمن القومى أو السيادة الوطنية، ورفض التحركات العشوائية التى لا تحقق نجاحا ملموسا للقضية الفلسطينية بل تبحث عن مجدها الشخصى وتصدر الترند. مصر تؤكد دعمها الثابت للقضية الفلسطينية، وكما تفعل على الدوام، لكن فى إطار مؤسسى ومنظم. فالبيان الرسمى نص صراحة على "موقف مصر الثابت الداعم لصمود الشعب الفلسطينى على أرضه"، وحذر فى الوقت نفسه من أى تحركات خارج الإطار الرسمي. وقد صدرت بيانات مؤيدة لهذا التوجه؛ فقد أعلن الاتحاد العام لنقابات عمال مصر دعمه القاطع للبيان وشدد على أن "دعم القضية الفلسطينية لا يمكن أن ينفصل عن احترام سيادة الدولة ومؤسساتها"، كما طالب بتوجيه طاقات التضامن نحو "مسارات بناءة ومؤثرة تخدم القضية" دون التخطى الأمني. فى المقابل، لوحظ أن بعض الحركات التضامنية اتسمت بالعفوية أو حتى بالتحريض الشعبى خارج المؤسستين الحكومية والمدنية. إن هذه الخطوات العشوائية قد تحمل أجندات مشبوهة: فمثل هذه التحركات لم تمر عبر جهات رسمية، وبالتالى غير منسّقة من الناحية الأمنية. والرسالة هنا واضحة: أى تضامن مع أهل غزة يجب أن يتم ضمن الأطر القانونية المعروفة، وإلا فسيعد خارجاً على المصلحة الوطنية المصرية. يسود تصور أمنى لدى السلطات بأن السماح لأى مجموعات أو حشود غير منسقة بالوصول إلى حدود غزة يمكن أن يفتح جبهات خطر جديدة. فمن جانب، لا يوجد ما يلزم مصر قانونياً بالسماح لأى نشاط خارج إطارها، بل على العكس تبيح لها المواثيق الدولية تنظيم دخول الأجانب وأنشطتهم. وحذر المحللون من أن وجود متضامنين عشوائيين على الحدود قد يوفر فرصا لتنفيذ أعمال تخريبية أو إرهابية من قبل عناصر متخفية. فى مثل هذه الظروف المتوترة، فإن عبور حشود غير منضبطة قد يؤدى إلى مواجهات مع قوات الأمن، أو حتى استغلال من قبل جهات معادية. مما يعنى مخاطر مباشرة على الأمن المصرى لجهة تنظيمات سيناء المسلحة. بعبارة أخرى، مواجهة مثل هذه المسيرات العشوائية ستضع القاهرة فى مأزق؛ إذ سيتصاعد الشك بأن خلفها أجندات خارجية (إسرائيلية أو أخرى) لتحويل سيناء لمربع قتال. وتخشى السلطات أيضاً من أن أى تصعيد أمنى فى المعبر على الحدود سيجد المصريين فى مواجهة مع إسرائيل والدول الداعمة لها، كما سيعرض المتظاهرين أنفسهم للخطر. لذلك تصر مصر على أن كل زيارة رسمية يجب أن تكون منظمة مسبقاً، وأن أى طلب خارج الإطار لن يؤخذ فى الحسبان. كما أن هناك الكثير من الخبرات والتجارب السابقة حول دور الإخوان وحماس فى أحداث الأمن القومى المصري. أثناء ثورة يناير، وتعاون حركة حماس مع تنظيم الإخوان فى تنظيم اقتحامات السجون المصرية وإطلاق النار نقاط الجيش، بل وفى إنشاء مليشيات مسلحة وقتل جنود فى سيناء. إن الهدف الحقيقى لترويج مثل هذه المسيرات هو إحراج مصر وتشويه صورتها، وإظهارها فى ثوب المتخاذلين، خصوصاً وقد فقدت تنظيمات الإسلام السياسى الكثير من شعبيتها. وبناءً عليه، وجب التنبيه إلى أن هناك أطرافاً تحاول توظيف القضية الفلسطينية فى معركة سياسية داخلية أو إقليمية فى حين أن القضية الفلسطينية لدى مصر لا تقبل أى "مزايدة". وفى نفس الوقت مصلحة مصر وأمنها لا يقبل أي "تهاون". من المفارقات اللافتة أن هذه المطالبات بتسهيل الزيارات الحدودية تتزامن مع غياب أى دور لتلك القوافل التضامنية فى المبادرات الرسمية السابقة. ففى 2 ديسمبر 2024 استضافت القاهرة مؤتمراً دولياً على مستوى وزارى لدعم غزة وزيادة المعونات، وبمشاركة 103 وفود للدول والمنظمات والهيئات الدولية والمؤسسات المالية. وعلى الرغم من الدعوات الشعوبية والحقوقية قبل المؤتمر لدعم القطاع، فإن أى وفد من قوافل الصمود لم يشارك فيه، ولم يذكر لها أى حضور. وهذا يثير التساؤل: إذا كانت الأهداف إنسانية بحتة، فلماذا لم تستثمر هذه الحملات الشعبية الكبرى فعلياً فى دعم خطوات القاهرة الهادفة إلى كسر الحصار؟ بل جاء الحراك الحالى بعد أشهر طويلة من الحرب وتواصل إغلاق المعبر من جانب إسرائيل، وكأنه لفت انتباه الحكومة دولياً بشكل مفاجئ. إن غياب هذه الحشود عن مؤتمر القاهرة – رغم تنظيمه من قبل مصر نفسها – يدق ناقوس إنذار بأن هناك عوامل سياسية أو دعائية تقف وراء تحركاتها. ومما يؤكد ذلك أن توجهات هذه القوافل تركز حصرياً على معبر رفح المصري؛ إذ لم تظهر دعوات مماثلة لتظاهرات ضخمة عند الحدود السورية مع غزة أو اللبنانية أو معبر العقبة الأردني. هذا التحيز الجغرافى يعكس بوضوح أن القضية الفلسطينية بالنسبة لبعض القائمين على الحراك ليست سوى ذريعة: فلو كان همّهم رفع الحصار، لكانت المساعى متعددة الاتجاهات وليست محصورة بتركيز الضغط على مصر وحدها. مصر تدرك تماماً موازين القوى المحيطة بغزة، ومصالحها القومية فى سيناء وشرقها. ولذلك صاغ بيان وزارة الخارجية بعقلانية حازمة: فهو لا يغض الطرف عن معاناة الفلسطينيين، لكنه يشترط أن يكون التعبير عن التضامن منضبطاً وقانونياً. إن التقيد بهذا النهج فى الأيام القادمة يعد الضمانة الوحيدة لعدم تحويل معبر رفح من منفذ إنسانى إلى خطر أمني. ولا يجب غض النظر عن حقيقة أن بعض التنظيمات والجماعات حاولت سابقاً استغلال أى ثغرة فى أمن مصر لصالح أجنداتها، سواء بعد 25 يناير أو 30 يونيو؛ فما حدث فى الماضى يذكر بأن السيناريو الأمنى لا يهمل. وبالتالي، على الحكومة المصرية والمجتمع المدنى المصرى – بكل فصائله – أن يستمرّا فى دعم القضية الفلسطينية، لكن ضمن إطار المؤسسات والقانون، وأن يرفضا أى "انخراط عشوائي" يهدد أمن البلاد. وفى هذا السياق، تظل مصر مفتوحة أمام أى زيارة رسمية منظمة لمساعدة غزة، وسياسة السلطات واضحة (حصول الموافقات المسبقة والتنسيق مع وزارة الخارجية)، وهى سياسة تتوافق مع المعايير الدولية لحماية الأمن القومي. فالتضامن الحقيقي، كما أكدت مصادر رسمية، هو الذى يتسم بالمسئولية والاحترافية وليس بالفوضى أو اللعب بمصائر الآخرين.