في زمنٍ تُنصب فيه المنابر على كل زاوية، ويُصبح الميكروفون أداة نجاة لا وسيلة بلاغ، تتراجع هيبة الصمت إلى الخلف، لكنها لا تسقط، تظل واقفة، كشيخٍ وقورٍ في مجلس مليء بالمراهقين الصوتيين، لا يعلو صوته، لكنه يُسمع. الصمت ليس عجزًا كما يتوهم البعض، بل اختيار، وأحيانًا عقيدة، هو القوة التي لا تحتاج إلى استعراض، واللغة التي تفهمها الأرواح دون حاجة إلى ترجمان، في كل مرة يصمت فيها عاقل أمام ضجيج السفهاء، يسجل موقفًا لا تلتقطه الكاميرات، لكنه يُحفر في الذاكرة. الصمت ليس غيابًا عن المشهد، بل حضور بأدوات مختلفة، إنه رفضٌ أن تكون جزءًا من مهرجان الردح العام، وقرارٌ أن تحمي ما تبقى من كرامة الحروف من عبث الأقلام المرتجفة. الصمت، في كثير من الأحيان، أعلى صوتًا من الكلام، لأنه لا يطلب التصفيق، بل يكتفي بالوقار. هيبة الصمت لا تأتي من الفراغ، بل من إدراك عميق بأن بعض المعارك لا تُخاض باللسان، بل تُكسب بالصبر، أن بعض المواقف لا تحتاج إلى تعليق، لأنها فضحت نفسها بنفسها، وأن كثرة الشرح تفسد المعنى، مثلما يفسد الطهي الزائد طعم الطعام. في كل زمن، يظهر من يجعل من الصخب بطولة، ومن يخلط بين الجرأة والوقاحة، وبين التعبير والتشهير، وبين الرأي والتهريج، حينها فقط، تتجلى عظمة الصمت، كأنها قصرٌ منيع لا يطاله العبث، وكأنها لغة خاصة لا يقرأها إلا من يعرف كيف يُصغي. الصمت لا يُستخدم دائمًا، لكنه يُختار بحكمة، لا يعني الضعف، بل يعني أنك أكبر من أن تنزل إلى وحل الجدال، أنك لا ترى جدوى في تضييع وقتك في الرد على من لا يستحق السمع أصلًا، الصمت في وجه التفاهة بطولة، وفي مواجهة القيل والقال درع. أحيانًا، تكون الكلمة أرخص من أن تُقال، تكون الحروف مجرد طلقات طائشة في معركة خاسرة، أما الصمت، فهو انسحاب تكتيكي من فوضى لا تنتهي، واستعلاء على مستوى لا يستحق النزول إليه. والأجمل أن الصمت لا يحتاج تبريرًا، يكفيك أن تكون مرتاح الضمير، صافي النية، واثقًا أن الصوت لا يُقاس بدرجته، بل بقيمته، وأنك حين تصمت، فأنت تمنح نفسك مساحة للتأمل، للتمهل، للنجاة من فخاخ الكلمات المرتجلة. في عالم يصرخ فيه الجميع، يصبح الصمت مهارة، وفي زمن ينطق فيه كل من لا يملك شيئًا ليقوله، يصير الصامت سيد المجلس، حتى إن لم يكن حاضرًا. فدعوا للصمت مقامه، ولا تظنوا أن من يصمت قد غاب، ربما كان يكتب داخله مرافعة، أو ينحت في روحه جبلاً من الحكمة، أو ببساطة يحتفظ بكرامته.