في ظل اهتزاز خريطة الشرق الأوسط وصراعاته المتجددة، برزت القاهرة كقوة قادرة على المبادرة وإعادة رسم موازين التأثير. إذ صارت ورقة "أبو محمد الجولاني" في سوريا ورقة محترقة لا قيمة لها لدى واشنطن، التي تتبع استراتيجية "حرق الورقة" للتخلص من أدواتها حين تفقد قيمتها الاستراتيجية. ومع قرب حسم ملفات غزة واليمن، وفشل إرباك باكستان عبر الهند، يتجه الرهان الأمريكي مجددًا إلى إشعال الجبهة السورية قبل نهاية 2025، كما أكدت تصريحات روبرت فورد وماركو روبيو. على وقع حالة الانقسام السوري، برز الرئيس عبد الفتاح السيسي كأول رئيس مصري يواجه التحديات الخارجية بجرأة استثنائية؛ فحركة ميله الدبلوماسي وتحالفاته مع القوى الإقليمية (تركيا، الإمارات، السعودية، السودان) والقوى الدولية (الصين، روسيا) تهدف إلى إعادة صياغة التوازنات. وقد أتاح له ذلك دفع ملف الصناعات الحيوية العسكرية والمدنية قدمًا نحو توطين الإنتاج داخل البلاد، ما ينعكس إيجابيًا على الأمن القومي والقدرة الذاتية للدولة. في هذا السياق المشتعل، أثبت الرئيس عبد الفتاح السيسي جدارته كرمانة ميزان إقليمية. فحركته الدبلوماسية الدقيقة بين دول المنطقة والعالم – من تركيا والإمارات إلى الصين وروسيا – لم تكن شعارات، بل إجراءات باتت تُعيد توطين الصناعات الحيوية عسكريًا ومدنيًا، وترسّخ القدرة الذاتية للدولة. وفي صمت مدروس، أنشأت القوات المسلحة ثلاث قواعد جوية متطورة في سيناء، مع تحديث منظومات الدفاع الجوي والاستطلاع، في مشهد يعزز الردع الوطني. مواكبة للمحور الاستراتيجي العسكري، باشرت مصر مفاوضات متقدمة مع بنك صيني لافتتاح فرع ضمن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس. هذه الخطوة لا تقتصر على الشق المالي؛ بل تشكل لبنة في بناء منطقة لوجيستية دولية متكاملة تقلص الاعتماد على الدولار، وتجذب رؤوس الأموال والتصنيع من بريكس وأوروبا وأفريقيا. إن إعادة تعريف المشهد الاقتصادي عبر بوابة القناة يؤهل مصر لتولي دور المنصة الصناعية والتجارية الأهم في الإقليم. يأتي في إطار الحفاظ على التوازن مع الحلف الخليجي والإدارة الأمريكية. يُعد هذا التحرك محورياً على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي؛ فهو يؤسس لمنظومة لوجيستية تُخفض تكلفة الإنتاج وتُعزز مكانة المنطقة كمركزٍ عالميٍّ للتصنيع والتصدير، مما يضعف دور الدولار تدريجيًا ويسهم في تنويع الاعتماد المالي الدولي. على الضفة الغربية، تزدحم ليبيا بميليشيات متناحرة منذ عام 2014، ما يهدد أمن الحدود المصرية. ومقتل قائد "قوات دعم الاستقرار" عبد الغني الككلي فتح الباب لمرحلة جديدة من الانقسامات؛ إذ يقتضي الأمر دعم الجيش الوطني على خط "سرت–الجفرة" للحفاظ على عمق مصر الاستراتيجي وتفادي تمدّد المليشيات التي اختطفت المؤسسات الاقتصادية والمصرفية. على الرغم من الاستثمارات الخليجية الضخمة في الاقتصاد الأمريكي، فقد غاب استخدامها كأداة ضغط سياسي رافدٍ للدفاع عن القضية الفلسطينية. فالمليارات التي ضختها صناديق الثروة السيادية الخليجية والأسواق العقارية لم تُترجم إلى مواقف سياسية حاسمة. وتُعزى هذه الظاهرة إلى التهديدات الأمريكية المباشرة والقيود التي فرضتها قواعد "الوجود العسكري" في الخليج منذ 1991، ما حدَّ من قدرة أنظمة المنطقة على المناورة. أما المبادرة العربية للسلام لعام 2002، فلم تنل الزخم الكافي لتطبيقها بعد، رغم تمسك الرياض بمبدأ التوازن بين التطبيع وإقامة الدولة الفلسطينية. لم تعد التهديدات محصورة بالمتوسط؛ فالإرهاب الذي نشأ في مالي والنيجر تجاوزه إلى بنين وكوت ديفوار وتوغو. ففي أبريل 2025، سُجل مقتل أكثر من 200 مدني في نيجيريا و54 جنديًا في بنين نتيجة هجمات تنظيمية. ويُعزى هذا الانتشار جزئيًا إلى انسحاب دول الساحل من "إيكواس" وغياب تنسيق أمني فعّال. الأمر الذي يستدعي توسيع مجالات التعاون المصري–الإفريقي لتثبيت الأمن الحدودي وصون استقرار القارة. في الخرطوم، تصاعد الصراع منذ أبريل 2023 بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وتحول من نزاع داخلي إلى ملعبٍ للتدخلات الإقليمية. وخشية من إعادة سيناريوهات ليبيا والصومال، تؤكد القاهرة أن الحل يبدأ بوحدة الدولة ومؤسساتها، لا بتقوية أمراء الحرب. فالتفتيت أو فصل الشرق يهدد مصر جنوبًا ويمنح قوى أجنبية موطئ قدم عبر البحر الأحمر. وفي غياب دور عربي فاعل، تبقى القاهرة الممر الإنساني والسياسي الأكثر أمانًا للسودانيين، مدفوعةً بواجب حماية عمقها الاستراتيجي وحق شعوب المنطقة في الاستقرار . إدراكًا لأهمية "الحزام الأمني" الممتد من الشام إلى الساحل الإفريقي، مددت مصر نفوذها جنوبًا إلى القرن الإفريقي (الصومال، جنوب السودان، إريتريا، جيبوتي)، تحقيقًا لرؤية "التوازن الإقليمي" عبر أدوات تنموية وأمنية. تلك التحركات لا تنتظر دعمًا خارجيًا غير مشروط؛ إذ تُدار مصالح القاهرة وفق أولوياتها الوطنية أولًا، مع الحفاظ على استقلالية القرار. المفارقة أن الدول التي كانت تُهيمن على المنطقة لقرن من الزمان، باتت اليوم تلهث خلف الفرص الجديدة، بعدما فقدت قدرتها على ضبط الإيقاع. والغرب، الذي صنع المشروع الاستعماري المسمى "إسرائيل"، يجد نفسه اليوم مهددًا بخسارته لصالح شريكه الأميركي الذي لم يعد يأبه باستشارة أوروبا أو إشراكها في قراراته. فمنذ عهد ترامب، بدأت واشنطن بمصادرة إسرائيل سياسيًا من حلفائها الأوروبيين، وهو ما يظهر جليًا في تجاهل الإدارة الأميركية لأي تنسيق مع أوروبا فيما يخص إدارة معبر رفح أو التسوية في فلسطين. إنْ حدث وتجرأت أوروبا، خاصة بريطانيا، على الاعتراف بدولة فلسطينية، فافهم أن إسرائيل قد خرجت بالكامل من قبضتها، وأن اللعبة انتقلت كليًا إلى يد واشنطن. لكن هذا الصراع بين ضفتي الأطلسي لا ينبغي أن يطمئن العرب، بل يحتم عليهم اغتنام الفرصة لإعادة ترتيب أوراقهم، وتحويل التنافس الغربي إلى فرصة استراتيجية. تقدم تجربة مصر درسًا في إدارة التعقيدات الإقليمية عبر مزج الدبلوماسية الوقائية بالبناء العسكري الاستراتيجي، وتنويع الشراكات الاقتصادية. فعندما تنهى واشنطن "حرق ورقتها" في سوريا، تظل القاهرة منتبهةً لتداعيات الفوضى في ليبيا وسودانًا، وتسعى جاهدةً لتحقيق توازن شامل يضمن أمنها القومي واستقرار جيرانها. وبشعار "سلام عادل يقوم على دولة فلسطينية"، تؤكد مصر عهدها بعبور التحديات والحفاظ على ريادتها الإقليمية.