انتهيتُ، مؤخرًا، من رواية "بثينة" للكاتبة تيسير النجار، والصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهي رواية مكتوبة باحترافية كبيرة، فما إن تبدأ فيها حتى تأخذ بك، فلا تتركها، ولن تتركك، فقد استطاعت تيسير النجار أن تصوغ حكايتها، وتورطك في أحداثها بشكل كبير. "بثينة" مثل كل الروايات الكبرى، بدأت بموقف واحد، لكنه كافٍ كي يشعل الدنيا؛ حركة واحدة، لكنها قلبت العالم الهادئ المستسلم لروتينه اليومي، ولم تعد الأشياء كما كانت، ولن تعود أبدًا، إنه موقف تراجيدي بامتياز، موقف "شكسبيري" حيث المصائر صارت محددة، وليس أمام الشخصيات جميعها إلا أن تسير في طريقها إلى النهاية. رواية تقول لك إن الملاحم الكبرى تأتي من أصغر الشرر؛ فإن حدثًا معينًا يرد في سياق محدد، كفيل بأن يعيد صياغة العالم من جديد، وأن يحوّل الثابت إلى متغيّر، والآمن إلى خائف، ويصبح الجميع في انتظار تصاريف القدر. هي رواية أصوات بامتياز، تدور في نحو أربعين يومًا، في إحدى قرى الجنوب، حيث كل شيء يسير بنظام رتيب؛ إنه مجتمع قبلي تحكمه العصبية، وليس أصعب ولا أقسى من فضيحة تفجرها امرأة في ذلك المجتمع المتعطش للفضائح، وقد استطاعت تيسير النجار أن "تُشرّح" المجتمع من خلال حدث لم يستغرق دقائق، لكنه جاء كاشفًا للنفوس بكل ما فيها من خير وشر – وما أكثر الشر – كما أنه كاشف لموقع المرأة في المجتمعات القبلية؛ لا أقصد فقط قدرتها على الفعل، بل تَحمُّلها لأفعال الآخرين؛ النساء جميعًا يدفعن الثمن، ولن تنجو واحدة من التأثر. أما عن بناء الرواية، فتعدّد الأصوات وكثرتها كان مناسبًا تمامًا للحكاية؛ فهي قصة واحدة، لكن أثرها يصيب الجميع، كلٌّ بطريقته. فكل ما يجري هو رصد لظلال الحدث نفسه، عن طريق أصوات معبّرة، وقع عليها الحدث مثل صاعقة، حتى إنه أحيانًا يختلط عليك الظالم والمظلوم، ربما لأنه ليس هناك ظالم بل الجميع مظلوم – بصورة أو بأخرى – ظلمتهم الحياة، وقست عليهم. أما شخصية "بثينة"، فلا تدري: هل تتعاطف معها، أم تلومها لأنها لم تُدرِك الواقع المحيط بها؟ من حق المرأة أن تقاوم ركود حياتها، لكن ليس عليها أن تحرق الجميع في سبيل ذلك. انتهت الرواية وظللتُ حائرًا معها؛ أحبها وأعاتبها في الوقت نفسه. لقد دفعت هي الثمن الأكبر، فهل كان الأمر يستحق؟ ظل ذلك السؤال عالقًا، لم تستقر في روحي إجابة واحدة. ومن خلال تعدّد الأصوات أيضًا، قدّمت تيسير النجار عالمًا يُكمّل بعضه بعضًا؛ كل الشخصيات موجودة، كل النفوس حاضرة، كل طرق التفكير "تفكّر"، وكل الأمهات رحن يراقبن البنات وأفعالهن. لكن الذي استقر في نفسي أن تيسير النجار تعرف كيف تقدم لنا رواية تجمع بين فنون السرد والحكايات الشعبية؛ تعرف كيف تدخل بنا إلى قلب الحدث، ثم تدفعنا جميعًا إلى التفكير، إلى التعاطف، إلى الكراهية، إلى المحبة والغضب، وغيرها من المشاعر التي تثيرها الأعمال الأدبية الجيدة.