يمشى العجوز الماكر على خيط رفيع، لا تعوزه الخفة والمهارة، ولا يفتقد اللياقة ومقدرة التقافز وحرق المراحل. لديه بازار مفتوح على مدار الساعة، والبضاعة فيه على كل شكل ولون؛ إنما لا بيع ولا شراء بالمعنى التجارى البسيط. غايته أن يربح فى كل الأحوال؛ عندما يُسوّق أو يتسوّق، والجميع زبائن وأحباب طالما يحترمون القاعدة، ومنافسون وأعداء ألداء لو سعوا إلى كسرها. يعطيك من طرف اللسان حلاوة، ولن يحتاج حتى لأن يروغ منك كما يروغ الثعلب؛ لأنه يراهن على جاذبية الكلام وحدها، وعلى انفرادية القرار دائما وأبدا. وما تحسبه تنازلا منه أو تفريطا؛ ربما لا يعدو أن يكون طُعما لصيد جديد. سعّر النار على بنما وقناتها؛ حتى أبعد الصين عنها نسبيا، والبقية تأتى فى مقبل الأيام. رضخت المكسيك فى المسائل الأمنية، وتتحسس كندا مواضع قدميها كى لا تدخل فى عصمته، وتكون الولاية الحادية والخمسين. أما الصين فقد أبدت صلابة ظاهرة، ومتوقعة أيضا؛ لكنها جلست إلى الطاولة وتقبّلت أن تُحسم الجولة الأولى من الحرب التجارية لصالحه. وماذا عن جرينلاند والناتو وحرب أوكرانيا؟ كلها مناورات يُراد منها غير ما يُصرّح به، والرجل بطبيعته يُشهر البندقية فى الوجه، بينما يشد الخيّة المعقودة حول الأقدام. يمضى فى العالم كأنه حاوٍ، يقبض على شعلة النار ويملأ شدقيه بالكيروسين. ألاعيبه مبهرة شكلا، وحارقة فى المضمون والأثر. يُغرق البيروقراطية الأمريكية وجهازها التشريعى بسيل من الأوامر التنفيذية؛ فينشغل النواب والقضاة فى بعضها، وتمر الأغلبية بلطفٍ فى الزحام. يعقد الصفقات كما لو أنه فى عُرس كاثوليكى، وينقضها بأسرع مما تتبخر حلاوة اللقاءات العابرة فى الحانات وبيوت المزاج. لا يُصرّح بما يُريد من أقصر الطرق؛ إنما يصوّب عليك بما لا تريد، أو يفوق قدرتك على التضحية والاحتمال؛ فيكون المسار الوحيد المتاح بين أن ترضخ أو تتشدد، أو تتكفل باستكشاف البدائل وترتيب الحلول، وفى النهاية ستقتنع بأنه أخذ أقل مما طلب، وستكون الحقيقة أنه فاز بأكثر مما أراد. والنقطة الأخيرة تتجلّى بأوضح ما يكون فى النكبة الفلسطينية الراهنة. ادّعى على طول السباق أنه لو كان فى مكتبه البيضاوى ما اندلع الصراع أصلا، وأنه سيُنهيه على عجل بمُجرد أن يتسنّم كرسى الحُكم. مرت الأيام ثقيلة ومتباطئة، وما وجد سبيلا لترشيقها وتسريع حركتها إلا أن يُضرم النار فى النار، ويُغازل نتنياهو ويصدم وَعيَنا بالحديث عن «ريفييرا الشرق»، وتهجير الغزيين ليكون القطاع مشروعا عقاريا وواحة للمال الذى يحبه، وفلسفة السلام الاقتصادى التى يبشر بها منذ ولايته الأولى، وقد عبّد طريقها بالاتقاقات الإبراهيمية، ويسعى إلى توسيعها بإطلاق النسخة الثانية منها. والغالب أنه، بعقلية مطور العقار، يطمع فعلا فى الشريط الساحلى، وبعقلانية السياسى؛ وإن كان قليل الحظ منها، لا يريده ولا غاية لديه فى أن يتكبد أعباء اقتراحه المستحيل. والحكاية كلها أنه يُطوّر المشكلة إلى معضلة، ويضغط على الأعصاب بطريقته المحببة فى انتهاج «الضغوط القصوى»؛ فيصطدم بالرفض المصرى الصارم، مع ما يستدعيه ذلك من مواقف عربية جادة، وجودية ومبدئية كما فى حال الأردن، واضطرارية أو إحراجية لغيرهم. إنما فى الثنايا؛ تُعِدُّ القاهرة خطَّةً شاملة للتعافى المبكر وإعادة الإعمار، وتتبناها الجامعة ومنظمة التعاون الإسلامى، ويتطوّع آخرون بمقاربات عن «اليوم التالى»، وصيغة الحكم، وأفق الورشة الإقليمية والدولية لترتيبات الإدارة والأمن فى المرحلة الانتقالية، ولحين التوصُّل إلى رؤية عمومية مكتملة وذات صلاحية دائمة أو طويلة المدى. وبهذا؛ سيبدو سيد البيت الأبيض زعيما منفتحا وتوافقيا، ينزل عن الشجرة دون إجهاد ومعاظلات، ويُفرّط فى بعض أفكاره انتصارا للتوافق، وتغليبا لتقريب الرؤى على المناكفة وفرض الإرادات. لُعبة الحواة مكشوفة أحيانا؛ لكنها مُثمرة دومًا. وبمنطقها الاحتيالى، انتزع الرجل هُدنةً أولى من حماس على شروط كانت ترفضها لشهور طويلة، ومُنِحَ نتنياهو حق ارتداء القفازات وتأجيج القتال مُجدّدًا. وإلى ساعات قليلة مضَت؛ لم يتوقف عن مُغازلة الحركة باللقاءات السريّة والمُعلنة فى الدوحة، وتلقّى هديّته سافرة وغير مُغلّفة، فى صورة الجندى مزدوج الجنسية عيدان ألكسندر، بعدما أُطلِقَ مجانا ومن دون صخب أو استعراضات دعائية، وما منحهم شيئًا إلا الوعود والتباشير التى لم يتبيّن فيها الخيط الأبيض من الأسود حتى الآن. عَصَر الإدارة السورية الجديدة بين إقدام وإحجام، وأقرّ بالطبعة العثمانية للنظام الصاعد دون أن يغلّ أيدى الصهاينة من الجنوب، ولوّح إجلاء قوّاته عن الشام فقرّب القامشلى من دمشق، وعزّز مسار تسوية الأزمة الكُردية فى تركيا قبل النظر إلى جناحها السورى، وجمع أنقرة وتل أبيب على طاولة واحدة فى أذربيجان، وروسيا وأوكرانيا فى اسطنبول. كما لو أن الجميع يتسابقون حول طاولة عشائه كرمًا وتبجيلاً؛ بينما يُفاضل بين الأصناف وينتقى، ويملأ معدته مرتاحا إلى أنهم سيتكفّلون فيما بينهم بالتكاليف، وسيملأ معدته دون أن يدفع لأحد منهم، أو يوفّر أحدًا من الشراكة فى الدفع. وإذ يحط على المنطقة زائرًا؛ فإنه ما أتى إلا لقيمة كُبرى، واعتراف أكيد بالمكانة والثِقَل. طامع أو طامح أو مُتودّد، لا فارق بينها جميعًا. لُعبته مُدارة طوال الوقت فى الغياب قبل الحضور، وما من حاجة لأن يقطع الأسفار لأجل الإشهار. الوفادة تكون على قدر المُضيف؛ والأخير كريم وحصيف أيضًا، ويعرف ما يُريد وما يُراد منه، وما يقدر عليه ممّا لا يقبل به. يُعاد رسم الحدود والعلاقات بين شريكين، وفيما يتقاطع معهما من جغرافيا وديموغرافيا ومصالح ونطاقات نفوذ، والجيوسياسة بطابعها مُغرية بالتلاعب، وماكرة فى اللعب باللاعبين، ولها قوانين خفيّة تتخطّى الجلىّ من المشاهد وتعلو عليه. الخرائط خدّاعة، والأوزان لها حسابات لا تُقاس بالكيلو متر ولا الكيلو جرام. لكل ميدان ظروفه وطبوغرافيته، ومداخله الشرعية أيضًا. يحدُث أن يُطمَر واحد أو يُستحدَث آخر، ويُوسَّع فى مدخل أو يُضيَّق عليه؛ إنما لا يصير الميدان على حاله إن تبدّلت حدوده أو اختلف متقاسموه. الأقاليم محكومة بأوضاعها وقضاياها، والممر الإلزامى إلى إعادة تعريفها، وتكييفها على وجه مُغاير، يقتضى وجوبا أن تُصفَّى تركة الماضى، ويُستعاض عنها بالبديل القادر على ملء الفراغ. وبينما تُمثّل فلسطين جرح الشرق وعِلّته العضال، ومنها اختلطت الأوراق وتداخلت العناوين قديما وإلى الآن، ولا يُفهَم جدل المُمانَعة بمعزلٍ منها، ولا دراما الشام فى مجاليه السورى واللبنانى أيضًا، بل ولا تُفكَّ العُقدة المُستحكمة من العراق إلى اليمن؛ فإن أية تصوّرات عن المستقبل لن تنبت إلا فيما بين النهر والبحر، وعلى قاعدة الحقوق العادلة والتوازنات الإلزامية مع كبار الإقليم، ومعاقله الراسخة. وعلى ما فات؛ فسيّد البيت الأبيض يُجرّب ما اختبر عدم صلاحيته فى ولايته الأولى. صفقة القرن؛ ثم استنابة الاقتصاد تعويضًا وحيدًا عن السياسة. وليس القصد أن مُقترحاته ساقطة مسبقا، أو لن تُفضى بالضرورة إلى شراكات ناهضة ومصالح زاهرة؛ إنما أن قياس المسألتين على بعضهما، ومحاولة حسم إحداهما بالأخرى؛ مِمَّا لا أمل فيه لاختلاف المساقات وتعاظم الفوارق بينهما. ما يعنى أن البركان قد يبرد ولا ينطفئ، وأن جولات الاشتعال تظل احتمالاً عاليا وذا فرصٍ كُبرى، انطلاقا من أنه لم يتصدّ للمحكّات الحقيقية، ولم يُجِب على الأسئلة ذات الأولوية. حلّ سيد واشنطن على الرياض. زيارة مهمة بكل الحسابات والمعايير؛ بل مهمة جدا، ومؤثرة فى كثير التفاصيل الراهنة، وستكون لها آثار أكبر على المديين المتوسط والبعيد. ليس تفصيلا عابرا أن يختار ترامب المنطقة لتكون وجهته الرسمية الأولى، للمرة الثانية على التوالى، ولا أن يصافح أحمد الشرع بينما ما تزال واشنطن تحبسه فى صورة أبى محمد الجولانى، وتركز على ماضيه الجهادى المتطرف؛ وإن رفعت اسمه من برنامج المكافآت المخصص لتعقب الإرهابيين والمطلوبين أمنيا. يعرف الرئيس أهدافه بدقة، ولا يسمح بأن يحول بينهما حائل من قيمة أو قانون واعتبارات سياسية ودبلوماسية راسخة. يشم رائحة المصلحة من وراء البحار والجبال، ويسير إليها كالمنوّم، ويفعل لأجلها كل ما لا يخطر على البال، أو يشذ عن القاعدة؛ لكنه يظل تاجرا تحكمه حسابات الربح والخسارة، ويُسطر الموقف وعكسه فى ورقة واحدة، ولا يستنكف أن يكون أول المنقلبين على خياراته؛ طالما أنها قصّرت عن إتيان ما يتطلع إليه، أو تبدّى له بديل عنها أكثر إفادة وأقل فى التكلفة. الجوهر واحد؛ ولو تفاوت الشكل فى الحالين. الزيارة السابقة انحصرت فى الرياض، واشتملت على ثلاث قمم أمريكية/ سعودية وخليجية وعربية إسلامية. أما الحالية فتتوزّع على ثلاث عواصم تتقاسم ثِقَلها ورمزيّتها معًا، وفوائدها أيضًا، ولم تتوسّع لقاءاتها خارج الدائرة الخليجية لتضمّ شُركاء من المحيط القريب أو البعيد. والغالب أن طابعها الأساسى ينصرف إلى الاقتصاد، وأن قضايا السياسة تحضر فيها حاشية على المتن، باستثناء ما كان على صعيد سوريا؛ بحثًا عن إفاقة وإنعاش عاجلين، وعن شرعية يبحث عنها الجولانى وما زال يتعثّر فيها. ومن ثمَّ؛ فلا مجال لمنحها أبعادًا تتخطّى ذاك الاعتبار؛ بعدائيّة معروفة عن الأصوليين وذيول الممانَعة مع كونها غير مفهومةٍ ولا مُبرّرة، أو بعاطفيّة مُبالِغَةٍ فى قليلٍ أو كثيرٍ، باندفاعة الشعور الوطنى أو مظنّة التشغيب وإثارة الفِتَن، والإفراط فى هذا من العدو أو الصديق يحرف النظر عن منفعتها الحقيقية، ويُعطّل العقل عن استبصار بقيّة القضايا على حقيقتها، والاقتراب منها بمنطقها وأشراطها، وبحسب الفاعلين فيها على وجه اليقين والجدارة. يشيح الرئيس بناظره عن بُقعة الدم؛ مثلما كان يتجاهل النظر مباشرة لنظيره السورى فى لقائهما أمس. يعرف يقينًا أنه كمن يطمع فى استخراج العسل من عش الدبابير، مُطمئنا إلى صفاء الطقس خارجه وازدهار الزهر وفوحان روائحه. استثنى إسرائيل من جولته، واشتبك بالتأكيد مع المأساة الفلسطينية فى لقاءاته الثنائية والموسعة بالمملكة، وسيتكرر الأمر فى الدوحة وربما أبو ظبى أيضًا. يُبشّر ولا يُنفّر؛ لكنه لم يضغط الزرّ لإيقاف المذبحة، وهو قادر على القرار لو كان راغبا فيه فعلاً. إنها رحلة صداقة لا صدام، ولا مجال فيها لبحث المُعضلات ولا لسخف القول. يُراهن فريقٌ على أنه عَمَّا قريب سيضيق ذرعا بزعيم الليكود، ويطمع الأخير فى أنه بعدما يستوفى مُرادَه؛ سيُلاقيه على المقصد نفسه كما جرت العادة. والرجل لا يقول ما سيفعل، ولا يفعل غالبا ما يقول؛ يفتح كيسَه ويمنح كلَّ شخص ما يتمنّاه، أمَّا الأُمنية الموعودة بالتحقَّق فمن نصيبه حصرًا. لا حاجة للاستطراد فى البديهيات، ولا لتأكيد المؤكّد فيما خصّ العلاقات والروابط التاريخية بين العرب. القاهرة كانت القلب والحاضنة، انفرادًا لزمن طويل، وشراكة رضائية أو ظرفية مع آخرين لمُهَل أقل. نهضة السعودية خير لها وللمنطقة كلها، كما أن عافية مصر ثِقَل للجميع ورصيد عمومىّ؛ ولا يُحلِّق الطائر بغير بجناحين، كما لا يُمكن أن يستعير جناحًا ولو من الفصيلة ذاتها. أما فلسطين؛ فإنها هَمَّ العرب جميعًا، ومسؤوليتهم أيضًا، وما من سبيل إلى قطع المسالك الوعرة فيها، وقفز الحواجز العالية؛ إلا بالعمل الخلّاق، والشراكة الجادة، وتلاقى الجهود على غاية واحدة. يُختَلَف فى وصفات العمران والتنمية؛ ولكلٍّ مشروعه وطموحاته الخاصّة؛ إنما لا أُفق للجغرافيا المشتركة من دون مظلّة جامعة، وهدوء يُعين السائرين فى أغراضهم، ولا يُشغّب على سيرهم بالقصد أو الاعتباط. وكما يُخشَى على عمارة غزّة بعد نكبتها؛ ما لم يُنجز المسار على وجه يضمن ألا تتكرّر المُغامرات وفق الفواصل المُعتادة؛ فالمنطقة بكاملها عُرضة للشدِّ والتجاذبات طالما أنها لم تُرمِّم مُعادلاتها الساقطة، أو تتّفق على بدائلها القابلة للتطبيق. كان الأسد، والدًا وولدًا، نكبةً كُبرى على سوريا من البوابة الفلسطينية، وتحت ستار العروبة وقضاياها الوجوديّة؛ فتلاعب بقواها حينًا وشاكسها أحيانا، وشَبَكَها بلبنان ثم انتزعَه منها إلى أن سلّمه لإيران. هكذا كانت الاندفاعة الهائجة نحو الجليل انتحارًا، ولا يُعوَّضُ عن تلك الخِفّة بما يُقدّمه الجولانى الآن تطوّعًا، مُعلنا الاستقالة من الجغرافيا والسياسة والمجالات الحيوية كُلّها، ومُرحّبًا بالانخراط فى المسار الإبراهيمى، أو الانتقال من حظيرة الشيعية المُسلّحة إلى فراش العثمانية الجديدة، ومُغازلاً ترامب ببُرج يحمل اسمه فى دمشق؛ والحال نفسها فى بقية الزوايا والمضامين. لا يُمكن أن يبقى حزب الله كما كان، ولا مصلحة فى السعى إلى شطبه تماما؛ بل مُغامرة ومُخاطرة. أوقعت «حماس» بنفسها والقضية فى أتونٍ حارق؛ لكن البديل ليس فى تنحية خيار المقاومة كاملا، أو تعقيم المشروع التحرُّرى من أدواته الخشنة بالإجمال. سوريا يجب ألا تعود لإيران قطعا؛ وبالقدر نفسه يتعيّن أن تُعزَل عن أية وصاية خارجية. والصهيونية تجاوزت خيارات التسوية السلمية منذ ثلاثة عقود على الأقل؛ إنما لا يُمكن أن تُصحَّف الديناميكية المطلوبة فى التعاطى معها؛ لتُجيَّر لجهة القفز من الشقاق إلى العناق، دون استحصال على مكاسب أو ضمانات. تُرامب يُريد ونحن نريد؛ والواجب ألا نتركه يفعل ما يُريد، ولا أن نُقرّ بأنه الحاكم بأمره، ولا راد لقضائه، ولا مُستجير من رمضائه إلا بالنار. والبرودة للأسف لا تقل خطورة عن التسخين، وللثلج خاصيّة حارقة عندما نُقيم فيه زمنًا، أو نرتاح لرطوبته فى مناخاتنا الحارة؛ فيسرقنا ببطء إلى أن نتيبّس تماما أو نفتقد وهج الحياة وحرارتها. وأحسب أنه لا الرياض، ولا أية عاصمة أخرى ضمن الجولة الترامبية، تمنح الزيارة تعريفًا يتخطّى واقعها، أو يُعمِّم آثارها المباشرة وغير المباشرة على موضوعات لا تقع فى نطاقها الأصيل. والمعنى؛ أنه لا الأشقاء يُفرّطون فى الحقوق التاريخية العادلة، من دون شكٍّ أو افتراضات رماديّة لا تتساند على دليل، ولا الضيف الهائج سينتزع منهم ما يفتئت على مصالحهم العُليا أصلاً، ويُمكِّن لدولةٍ سائلة وطمّاعة أن تُرخى ظلالها على الإقليم، أو تستأسد على قواه الحيّة الفاعلة. ما من تنازُعٍ كما يتصوّر البعض، والمصلحة واحدة؛ أو هكذا يراها العقلاء. اليوم ذكرى النكبة الأولى، ويصح فيها استدعاء أن الاختلاف والشقاق كانا من أسباب العثرة والارتخاء، وضياع الأرض وتضييع البشر. انقلاب حماس على السلطة وانقسامهما أضعف القضية الفلسطينية. غزو العراق خلخل بلدًا كان الثانى فى القيمة والثِقَل بعد مصر، وأسلمه لقمةً سائغة للملالى بينما كان الأمريكيون يُريدون خلاف ذلك. وارتباك بشّار بين ذاته المتضخمة داخليًّا، والمنسحقة أمام الحليف الإيرانى، المكابرة مع الغريم التركى، هزمه قبل أن يُهزَم فى ميدان الحرب الأهلية، وأورث مقعده لجهادى كان فى مُندرجا فى مشروعه سابقا؛ عندما مرّر المقاتلين إلى بلاد الرافدين لاستثمار فوضاها وإزعاج واشنطن. للعائلة كبارها، والكبار يتجادلون ولا يختلفون. وإن شبّ واحدهم عن الطوق يُضيف للبقيّة ولا يخصم منهم، ويرعى المكانة إلى أن تنتقل لغيره، أو يتقاسمها الجديرون بها. آفة المنطقة تاريخيا فى التنازُع والتشغيب، وفى الساعين للعب أدوار أكبر من حجمهم، أو البروز عبر الحط من الآخرين. وأعتقد جازمًا أن كلُّ عربى عاقل يبتهج بزيارة ترامب لثلاثٍ من دول المنطقة، ويُعوّل عليها فى الفائدة؛ وإن تحسّب من الارتدادات، مثلما يبتهج العاقل أيضًا بقوّة مصر وصلابتها، وأنها وقفت بطولها فى وجه مشروع التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، وقادت وتقود الجهود من الواجهة حينا، ومن الخلف حينًا آخر. هكذا تُؤسَّس الرؤى الناضجة على أكتافٍ عِدّة، وتنتدب القادرين على حَملها، ولا يعرف الفضل فيها لأهلِه إلا ذوو الفضل.