ما أعظمها من ليلةٍ تلك التى يتغير فيها مسار الأقدار وتتفتح فيها أبواب السماء، وتتنزل فيها الملائكة محملةً برسائل السلام، تتهادى بين سجدات العابدين، وتؤمّن على دعوات المتضرعين، وتنثر السكينة على القلوب التى أرهقها تعب الأيام، هى الليلة التى تجود فيها السماء بعطاياها، فلا يردُّ فيها سائل، ولا يخيب فيها راجٍ، ولا يعود منها طالب مغفرة إلا وقد غُسلت صحيفته بماء القبول، وأزهرت روحه بنور الرضا، فهى تاج الليالى وعنوان القرب ومفتاح الأعمار التى يكتب فيها فيض من الرحمة لا يُدرك مداه، كيف لا تكون كذلك، وقد ابتدأ فيها الوحى، وانفلق فيها نور الرسالة، واصطفى الله فيها خاتم أنبيائه ليحمل راية الهداية للعالمين، كيف لا تكون كذلك، وقد قال فيها العزيز الحكيم «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)»، ألف شهر تتقاصر عند عظمتها، وتنحنى أمام جلالها، فلا يوازيها عمل، ولا يدرك شرفها إلا من غُسلت روحه بنور الإخلاص، واشتاقت نفسه إلى عطاءٍ لا حد له ولا نهاية، هى ليلةٌ ليست ككل الليالى، يزدحم فيها الكون بأرواح الملائكة، وتتنزل فيها كتب الأقدار، وتتحول فيها الدموع إلى رسائل مغفرة، وتتبدل الذنوب إلى حسنات، وينظر الله إلى عباده فيمنح ويصفح ويعتق رقابا قد أثقلتها الخطايا، فى هذه الليلة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى محرابه، وقد اعتكف قلبه قبل أن تعتكف جوارحه يبتهل ويتضرع، يطيل السجود ويطيل الرجاء، ويدعو أمته إلى أن تتحرى هذه النفحة الإلهية، فيقول فى حديثه الشريف «تحروا ليلة القدر فى الوتر من العشر الأواخر من رمضان» [متفق عليه]، فكان يوقظ أهله، ويشد المئزر، ويفارق الفراش، ويسبح فى ملكوت الدعاء، لأنه صلوات الله وسلامه عليه يعلم أنها ليلةٌ تعادل الدهر، وأن من أدركها فكأنما عُمّر عمرًا مديدًا، واغتسل من أعباء السنين بغدير الرحمة الربانية، فيصبح كيوم ولدته أمه، قد مُحى عنه ما تقدم من ذنبه، وتفتحت له أبواب السماوات، هى ليلةٌ تسجد لها الأكوان خشوعًا، وتخشع لها الأرواح طمعًا، وترتجف لها القلوب شوقًا، فأى سعادة لمن أدركها بقلبٍ حاضر، وأى ندمٍ لمن مرّت عليه وهو عنها غافل، يا لها من ليلةٍ تكتب فيها الأعمار بأحبار القدر، وتتنزل فيها الرحمات كأنها نهرٌ دافق، وتُرفع فيها الأعمال إلى المليك الجبار، فتُقبل صحيفة وتُرد أخرى، وتُمحى زلة، وتُغفر خطيئة، وتُفتح صفحةٌ بيضاء لأصحاب الدعوات الصادقة، والقلوب العامرة بذكر الله، كما جاء فى الحديث الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» [متفق عليه]، فيا من تنتظر الفرصة قد آن أوانها، ويا من تثقل كاهله الذنوب، هذه ليلتك، ويا من فقدت الأمل فى الرحمة، افتح قلبك وناجِ ربك وارفع أكف الضراعة، فمن يدرى، لعلّ سجدةً فى جوفها ترفعك مقامًا لا يدانيه مقام، ولعلّ دمعةً صادقةً تمحو ماضيك، ولعلّ دعوةً بصدقٍ تفتح لك أبواب السماء، فتُكتب من السعداء، وتُعتق رقبتك، وتُنسج لك حياةٌ جديدة، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها حين سألته: يا رسول الله، أرأيت إن علمتُ أى ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها، فقال «قولى اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى»، فاللهم اجعلنا من أهلها، وأكرمنا بفضلها، وألحقنا بركب الفائزين فيها.