سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ذات يوم 25 مارس 1966.. وفاة الموسيقار محمد القصبجى أحد أعظم المجددين فى تاريخ الموسيقى العربية والذى نضب إلهامه فى التلحين لأم كلثوم بعد رائعة «رق الحبيب»
كانت الساعة العاشرة مساء حين أحس الموسيقار محمد القصبجى بآلام فى صدره، وانتابته أزمة قلبية لم تمهله أكثر من عشر دقائق، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة يوم 25 مارس، مثل هذا اليوم، 1966، وكان أفراد أسرته ملتفين حوله تملؤهم الفجيعة، واتصلوا بسيدة الغناء العربى أم كلثوم فوقع الخبر عليها كالصاعقة، واتصلت بدورها بالصحف والإذاعة، تنعى إليها وفاة صديق العمر، حسبما يذكر أقرب أصدقائه المؤرخ الموسيقى محمود كامل فى كتابه «محمد القصبجى حياته وأعماله». كان فى الرابعة والسبعين من عمره حين توفى، فهو من مواليد، 15 أبريل 1892، وكانت تجربته الموسيقية منذ عشرينيات القرن الماضى تقف خالدة باعتباره أحد أعظم المجددين فى الموسيقى العربية برأى الموسيقار كمال الطويل والموسيقار عمار الشريعى وآخرين، كما أنه الموسيقار الذى أحدث النقلة الكبرى فى التاريخ الغنائى لأم كلثوم بلقائه معها عام 1923 وتلحينه لها فى العام التالى، وبتقدير محمود كامل: «كانت نقلة أم كلثوم التاريخية الكبرى بتلحينه لها تحفة «إن كنت أسامح وأنسى الآسية» عام 1928، كلمات أحمد رامى، والتى وزعت وقتها مليون أسطوانة»، ويضيف كامل: كانت «إن كنت أسامح» نقطة تحول فى تاريخ الغناء العربى، ابتكر فيها القصبجى من الملامح الفنية ما أرسى هذا القالب على قواعد صحيحة من العلم والفن، وجعله نموذجا للتأليف الموسيقى، تلعب فيه الجملة الآلية دورا ظاهرا بجانب الغناء. يذكر محمود كامل، أن الشيخ على إبراهيم القصبجى المنشد والمقرئ المعروف لم يجل بخاطره أبدا أن ابنه محمد سيكون فنانا مرموقا فى يوم ما، ولم يكن يحب له أن يكون من أهل الفن، ويود لو يصبح عالما من علماء الدين، فألحقه بالكتاب ثم بمدرسة المعلمين، لكن الابن كان يراقب والده حين يعزف على عوده، ويحاول تقليده، وتأصلت عنده هواية الغناء فكان يغنى ما يحفظه من ألحان الشيخ سلامة حجازى، ولما اكتشف الأب موهبة ابنه الأصيلة وتعلقه الشديد بالموسيقى لم يحاول أن يفسد عليه اتجاهه وهوايته. تخرج محمد القصبجى فى مدرسة المعلمين عام 1915 وعمل مدرسا بمكتب «زينب بنت خليل» بحى بولاق مرتديا العمامة والقفطان، وفى 10 مايو 1917 استقال من مهنة التدريس وخلع زيه ليرتدى البدلة والطربوش، ويبدأ تفرغه تماما للموسيقى ليسجل ريادته ليس فى التأليف الموسيقى وفقط، وإنما فى مجالات أخرى، وعن ذلك يذكر منها محمود كامل: «يعتبر القصبجى من الملحنين الرواد الأوائل القلائل الذين كانوا يدونون ألحانهم بأنفسهم، مع أنه نشأ فى وقت لم تكن المعاهد الموسيقية فى مصر معروفة، ولم يدرس التدوين الموسيقى فى معهد أو على أحد من الأساتذة رغم أن والده كان يجيد هذا العلم كتابة وقراءة، إذ تعلم أسرار التدوين على يد بعض الموسيقيين الأتراك الذين كانوا يفدون إلى مصر، بل اعتمد محمد القصبجى على نفسه فى تعلم أصول النوتة الموسيقية». يرى «كامل»، أن محمد القصبجى كان فى جميع أطوار حياته الفنية مجددا ومتطورا، وتتميز مدرسته فى التلحين بهندسة البناء والجمل الموسيقية التى تقوم على أساس علمى وذوقه الخاص، وتتميز بالمسافات الصوتية المتباعدة، وكان يسبق زمنه فى تفكيره الموسيقى، لا يحب الجمود، وتبدو هذه الظاهرة بوضوح فى أغلب ألحانه، ومنها «يا ما ناديت» و«فين العيون اللى سبتنى» لأم كلثوم، و«يا طيور» لأسمهان، و«أنا قلبى دليلى» و«يا جمال العصفور» لليلى مراد، ثم «رق الحبيب» التى تعتبر أول صورة غنائية عربية وغنتها أم كلثوم عام 1946، وبلغت عبقريته فى هذا اللحن شأوها، سواء فى مقدمتها الموسيقية، أو فى أجزائها اللحنية المختلفة الأنغام والإيقاع والتى تعبر عن معنى كلمات الأغنية أصدق تعبير. توقف «القصبجى» عن التلحين لأم كلثوم بعد «رق الحبيب»، وباءت جميع محاولاته للعودة إليها بالفشل، واكتفى بالبقاء فى فرقتها يعزف على العود، وبدأ هذه المهمة منذ أن كونت أم كلثوم تختها الخاص عام 1928، واستمر على هذا الوضع حتى وفاته، وأبقت أم كلثوم كرسيه شاغرا فى حفلاتها لسنوات، ولم تضم أحدا بدلا منه. كان من أبرع عازفى العود ولم يقتصر على عزفه وفقط بل أدخل تطويرا على آلته، ويذكر محمود كامل: «كان لا يبارى فى العزف على العود، وتتميز مدرسته فى العزف بالبراعة فى البصم على عدة مقامات فى وقت واحد دون استخدام الريشة، وتقاسيمه المعبرة الفريدة فى نوعها من حيث تكوينها وتشكيلاتها المبتكرة»، ويؤكد كامل: «لم يكن القصبجى مقتنعا بآلة العود بشكلها وإمكانياتها، كان يرى فيها قصورا، ويمكن تطويرها، فسعى إلى تصميم مقاييس جديدة وأحجام مختلفة من هذه الآلة ليمكن العزف عليها بسهولة، ولتصدر أصواتا أكثر ضخامة وقوة مستخدما قواعد حسابية ونظريات هندسية معينة فى تحديد طول الوتر، ورأيه فى ذلك أن الوتر إذا زاد طوله على 60 سنتيمترا ضاع صوته هباء».