التاريخ و مادة التايخ و تناول دروس التاريخ.. مازِلت على قناعة ان التاريخ هو فجر الضمير الإنساني و مفتاح غده.. و لكني علي قناعة أيضا ان هذا المفتاح تائه بل مفقود .. مفقود في ردهات الفصول المكدسة بالتلاميذ و في وهن المعلم و المعلمة وإفتقادهم الشغف.. مفقود بين التعليم الحكومي و الخاص و التجريبي و الأجنبي و الانترناشيونال.. و تائه بين ثقافة المال و ثقافة مصر الاصيلة التي أَقرت منذ ان كان الدكتور طه حسين وزيرا للمعارف في منتصف القرن العشرين ان «التعليم كالماء والهواء"! وبالحديث الموصول عن الفصول الدراسية، تسطع صورة معلمتي "الأستاذة نعيمة" على وجه طفولتي وهي تخطو داخل الفصل بثبات و تتقدم نحو السبورة لتكتب «التعليم كالماء والهواء" و يأتي صوتها الحماسي والملئ بالفخر والقناعة قائلة لنا «يا بنات.. كررن هذه العبارة واحفظنها فقد قالها الدكتور طه حسين وهو يصف قيمة التعليم الذي تحصلن عليه الآن" مقولة خالدة لقائد منظومة التعليم ذو الرؤية الثاقبة وتناول واعي لمعلمة ذات دراية وإدراك متميزان كانا وراء ترسيخ مبدا جوهري في وجدان التلاميذ بأهمية العلم وبكونه احد ركائز الحياة وليس اداة للمظاهر و السطحية المجتمعية التي تتطلب ركوب "مصعد الوجاهة" من خلال اسم المدرسة وتصنيفها الدولي او مجرد ترف "الرطن" باللغة الإنجليزية ليتعالى من تسمح إمكانياتهم المادية امام العامة من الطبقة المتوسطة. احتار قلمي مؤخرا و تأرجح بين رغبتي في الاتساق بمصداقية للواقع الذي نعيشه و نعرفه صعب و ثقيل الهوي لما يحمله من تحدياته غير مسبوقة و علي الاخص فيما يتعلق بهموم المواطن و التزاماته الاسرية المتزايدة وغلاء الأسعار و ندرتها و أح يانا اختفائها من الاسواق، و بين الحاح صوتي الداخلي في وجوب طرح رؤيتي للامور من منظور براجماتي و بالخص في الشأن التعليمي و تناول دراسة التاريخ و بالتالي التعبير عن قلقي علي غدا و علي ضمائر و قلوب جيل غدا.. عزيزي القارئ.. ساستند هنا علي مقولة الدكتور طه حسين "التعليم كالماء و الهواء " والذي اكد في ثناياها أن "التعليم الأولى/ الأساسي هو أهم وأعم من تعليم القراءة والكتابة والحساب، ولذا وجب أن يكون المعلم على علم بتاريخ وجغرافية مصر، ويجب أن يتقاضى راتبًا معقولًا ليعيش حياة كريمة". ذكرت هذه مقولة في صدر هذا المقال كي اعضد عقيدتي واقتناعي الكامل بان العقول والضمائر أيضا تتغذي، و أؤكد إنتمائ لهذه المدرسة الإنسانية التي تقوم علي "التعليم و التعاليم" المرتبطة بالحياة و خبرات الحياة و عن أهمية "فلاحة العقل" و التي انبثقت منها كلمة الثقافة cultureكما تسمي في الغرب و ترادف معارف الحضارة/ التاريخ.. عزيزي القارئ ان التاريخ هو قوام المواطن و قلبه النابض، ان ذبل و مات فقد مات المجتمع عن بكرة ابيه.. تعلمنا التاريخ في مدارس مصرية من واقع صفحات "كتاب التاريخ و الجغرافيا" الذي لازمنا طوال فترة الدراسة الإبتدائية و تعلمنا أن مينا هو موحد القطرين وأن أحمس هو قاهر الهكسوس وأن رمسيس، إنتصر على أعداءه في معركة قادش من فوق عجلته الحربية وأن محمد على كان أُميّ ولكنه أسس مصر الحديثة، بل و نشأنا على حفظ هذه الأكليشيهات التي هي بدون شك وقائع سليمة غير أنها كانت تُدرس باساليب منزوعة الروح ، جافة ، أتت كالشفرات الحادة تقطع الحبل السري بين إبن امصر والتاريخ، جيل بعد جيل. فاسمحوا لي ان اشارككم حديث تخيلي دار بيني و بين التاريخ، في مشهد رسمته علي خلفية شوارع معشوقتنا مصر، الشوارع ذات العمارة البديعة و التفاصيل المتفردة.. و أقول له "عفواً .. أيها التاريخ !" أيها التاريخ .. أتخيلك غاضبا،ً ثائراً، حائراً، تجيش في خوالدك أسئله كثيرة لعل اولها هو هذا السؤال المحير، لماذا ؟ لماذا هم فاعلون بي هكذا ؟ فأنا منهم .. ووجودي منهم وبهم وغذائي من وجدانهم وأرواحهم وحكاويهم ونجاحاتهم وسقطاتهم وتحدياتهم .. أسمعك تقول لي،أنا التاريخ ، تاريخكم انتم! لحمي ودمي من عبق الأيام ، ذاكرتي كالبئر ليس لها قاع، مياهها عذبة، زادت بمرور الأيام وتحلت بالحلو وأذابت المرارة والحسرة . أنا التاريخ .. الكائن الوفي الذي تغير عليه رجال ونساء غير انه لم يعبأ، وتقدم .. وعبر سبيل الزمان ودروب الأيام ولم يحمل في جعبته إلا الحقائق والقرائن والأدله والأمارات . أنا التاريخ.. يتهمني البعض بالمغاير وأحياناً بالمغالط غير أنني برئ، ليس لي ذنب في ذلك.. فمن سرد احداثي و خانه الضمير ، وإرتأى وضع لمساته على وجهي، فرسم جفون عيني بقلمه وأضاف حسنه على وجنتى وضم شفتي ومد خطوط عريضة على جبينى، فأصبحت ليس بأنا.. أنا التاريخ ...تذكروني.. دخلت من باب مدرستكم وفرحت بلقاء الصغار منذ سنونهم الأولى ورحت أَلْهو وألعب معهم وأُطِل عليهم من وراء أَسْطُر وصَور ولكنهم لم ينظروا لي ولا حتى بطرف العين.. وقبل أن يصيبني الحزن والأسى، رأيت في مرآة كتابي -كتاب التاريخ -شخص آخر: نحيف، شاحب الوجه والملامح، سُحِبَت منه الروح ودُمِر الوجدان ، فلماذا فعلوا بي ذلك؟ أنا التاريخ .. مرت على الأقلام والأبواق، قالت وعادت ثم زادت فربطتني مرة بالدين ومرة بالسيف ومرات أخرى بالجنون والفنون،ولكنى مهما إقْتَرَنَتْ بي تيارات من هنا وهناك إلا أنني سرعان ما كنت أَهِمُ وأتقدم بخطوات ثابته لأنني حُر وهُمام،وأُقَدِر مسئوليتي تجاه الزمان . أنا التاريخ .. كبير القوم وقائم المقام الأكبر في أرض الكبار وفضاء التفرد والتميز، مرحت أزماناً طويلة بين ضفتي النيل، ركدت مرحا على رمال الصحراء طولاً وعرضاً، تنسمت عطر الصباح وتأفأفت من عفارة الخماسين ورقصت على نغمات الطبول والربابا وبكيت من غدر الزمان . أنا التاريخ .. أنا ثوب التباهي وعباءة الإجلال المرصعة بنقش التجارب وزخرفة الخبرات وألوان اللقآت، يرتديني المصري، فيزداد فخرا ببهاء الأجداد . أنا التاريخ .. أنا الحياة، أنا أمس واليوم وغداً، فلا تديروا عني الوجوه وتحفروا بيني وبينكم الأنفاق، وتُنْكِروا يوم من أيامي،مهما كانت مرارته،فأنا سجل يحمل في طياته كل هفوه ونسمة وبسمه ودمعة، أنا لا أنسى ولا أتناسى ولا أمحو ما كتبت في يوم من الأيام،فأوراقي تجف واقلامي سرعان ماترفع لتخلدني كما أنا .. أنا التاريخ ! و هنا توقفت و دققت النظر في التاريخ، هذا العزيز الغالي ومددت له يدي وأمسكت بذراعه بحنو و اصطحبته الي أروقة معرض الكتاب حيث كتب التاريخ المطبوعة حديثا بمحتوي عميق و صور ذات ألوان مبهجة و من حولها جموع الطلبة و القارئين من الشباب فاذا بالابتسامة ترسم علي وجهه.. فوجدتني أقول له : لا تحزن أيها المعلم والفيلسوف والحكيم لا تحزن أيها الوقور.. فلا يزال لك أحباب وتلاميذ وأتباع و عشاق أو لست أنت الذي علمتنا و اعطيتنا من الدروس ما يكفي اعمار الدهر؟ فهاهم اليك يعودون.. سيعودون لير تووا بحديثك العذب من جديد وتربي لهم أبنائهم من جديد وتبني لهم أمجادهم من جديد هذه حكمتك التي التي علمتنا إياها فلا تحزن..