بينما نسرع نحن بنات تانية أول إلى الفصل كانت أبلة (حسنة) تخرج من حقيبتها كتابا تنوى أن تقرأ لنا منه فى حصة اللغة العربية. وما أن هدأت حركة الفصل فى الحصة الأولى كانت المعلمة تكتب تاريخ اليوم 25 أكتوبر 1955 وهى تهتف: «كررن هذه العبارة يا بنات واحفظنها فقد قالها الدكتور (طه حسين) وهو يصف قيمة التعليم الذى تحصلن عليه الآن»: «التعليم كالماء والهواء»، يعنى أن العلم ليس رفاهية أو مجرد معارف يتعالى بها من تسمح إمكانيات أسرهم المادية بإلحاقهم بالتعليم، الذى يتطلب مستوى اجتماعيا وطبقيا معينا. وبدأنا نردد عبارة «كالماء والهواء» دون أن ندرك معناها بعمق بحكم أعمارنا الصغيرة. صاحت أبلة حسنة معلمة اللغة العربية تنادى زميلتها معلمة الحساب: «بصى على حوش مدرسة (البرامونى) اللى جنبنا بسرعة» فأسرعت أبلة (فاطمة) إلى النافذة لتهتف: «إيه اللمة دى؟!» وسرعان ما تجمعت المعلمات على عجل لترقب الحدث التاريخى الحالى فى المدرسة المجاورة لمدرستى «بين الجناين» الابتدائية للبنات. وبدأت البنات الصغيرات يتسللن إلى النوافذ المجاورة لمقاعدهن فى الفصول. ولكونى تلميذة فى العام الدراسى الثانى، وبمعنى آخر لم أتجاوز السابعة من عمرى فقد كان على أن أتسلق المقعد لكى تتاح لى الفرجة بين زحام زميلاتى طويلات القامة. وفوجئت بأن الضجة كانت حول ضابط جيش شاب يقف فى وسط الحوش وبجواره ناظر مدرسة البنين، وحولهم حشد من النساء اللواتى يرتدين ملابسا مهترئة سوداء ويمسكن بأيدى أطفال صغار من الذكور الذين يرتدون مريلة مدرسية من «التيل نادية» وهو قماش من القطن بلون سلطة الطحينة كان الرداء المدرسى يصنع منه فى ستينيات القرن الماضى. وفى طرف المشهد كان حارس المدرسة يهتف بخوف قائلا لحضرة الناظر المرتعد: «والله ما أعرف إنه الوزير، أصله كان معاه سكرتير بس، وكانوا نازلين من عربية جيب عسكرية وكنت رافض أسمح له يدخل لغاية ما أبلغ حضرتك» فهتف الناظر حانقا: «ده الوزير (كمال الدين حسين) وعضو مجلس قيادة الثورة يا غبى!». طبعا لم يكن التليفزيون قد ظهر فى عام 1955 الذى شهد تلك الحادثة الشهيرة والتفت الوزير الشاب إلى جمع النساء الفقيرات المتشحات بالسواد قائلا: «معاكو الملفات فصاحت واحدة: «أيوه معانا يا فندم ومعانا الأولاد اللى حضرة الناظر رافض يقبلهم إلا لما ندفع له جنيه رشوة»، وصاحت بقية النساء مؤيدات لها: «أيوه والله وإحنا غلابة وبنشقى فى بيع الخضار بالسوق المجاورة للمدرسة ولا نملك الجنيه المطلوب». استدار الوزير إلى مساعده الواقف يرقب الموقف قائلا: «خد منهم الملفات يا (حسن) وافتح سجل الفصل الجديد الذى سيتكون من الأطفال اللى واقفين دول بعد ما تتسلم ملفاتهم من أمهاتهم». وبدأنا نلهث ونحن نرقب المشهد التاريخى ولا نعرف كيف سينتهى، خاصة وقد لاحظت أن أبلة (بهية رضوان) ناظرة مدرستنا تقف هى أيضا لتراقب المشهد. وبينما تلتف النساء حول الرجل الذى أخذ يجمع الملفات منهن وينادى على أسماء الصغار ليصحبهم إلى الفصل الجديد، أخذت الأمهات فى إطلاق الزغاريد وكلاهن تدعو لسيادة الوزير الشاب الذى لم يكن عمره يتجاوز السابعة والعشرين. والتفت إلى الناظر المرتشى قائلا فى هدوء وأدب: «حضرتك حتروح الإدارة التعليمية علشان إنت صدر قرار بنقلك إلى مكان آخر. أما أنا فسأنتظر وصول الناظر الجديد الذى سيصل خلال دقائق من الآن لأتابع ما سيجرى من الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الإدارة ب(البرامونى) الابتدائية». • • • خلال ساعة كان باب مدرستى ينفتح لسيادة الوزير الذى جاء لمدرسة البنات ليتفقد الأحوال وليجد أبلة بهية تقف فى مدخل المدرسة مع المعلمات فى انتظاره. وبعد أن تفقد الحال الشديدة الانضباط بقيادة سيدة وهبت حياتها لعملها كمعلمة ثم كناظرة. وفى طريقه للخروج منح أبلة بهية رضوان شهادة تقدير لما تبذله من جهد وتفانٍ فى خدمة العملية التعليمية للبنات. وانتهزت حضرة الناظرة الفرصة وقد انتابها الفضول لتعرف حكاية السيد ناظر مدرسة البنين. فسألت سيادة الوزير على استحياء «هو إيه اللى حصل فى مدرسة (البرامونى) للبنين». فالتفت قائلا: «تعلمين إنى قد عينت منذ شهرين فى منصبى وكان على التأكد من أن التعليم قد أصبح مجانيا بالفعل فى جميع المدارس. ولاحظ رجال مكتبى أن الشكاوى قد انهالت على الوزارة من أولياء أمور طلاب مدرسة (البرامونى) الابتدائية للبنين والتى تقع فى منطقة العباسية مثل مدرستك للبنات وقد أجمعت الشكاوى على أن ناظر المدرسة يفرض «إتاوة» قيمتها جنيه على كل ولى أمر يتقدم بولده إلى تلك المدرسة. فجئت بنفسى بعد أن حرصت على إبلاغ أولياء الأمور بالوجود على باب المدرسة مع أطفالهم ومعهم الملفات التى ستودع فى إدارة المدرسة. والحمد لله الذى أعاننا على إعادة الحق فى التعليم المجانى إلى أصحابه من فقراء مصر». وعندما طلبت المعلمة من الطالبات أن يرددن وراءها العبارة الشهيرة للدكتور (طه حسين): التعليم حق للإنسان كحقه فى شرب الماء واستنشاق الهواء كانت حادثة مدرسة (البرامونى) تتراءى أمامنا بعد أن شاهدنا بأعيننا كيف تحولت تلك العبارة إلى حقيقة لمسناها لحظة أن لمس البسطاء أنهم صاروا هدفا حقيقيا تسعى الدولة المصرية إلى دفعهم إلى الأمام ليحققوا حلم الحراك الاجتماعى الصاعد، بعد أن كان الموقع الطبقى لكل فرد يتحدد منذ ميلاده بمستوى أسرته المادى. فيتجمد الفرد فى مكانه الاجتماعى ويتوارث الأبناء مكانة وإمكانيات الآباء فيبقى أقنان الأرض وعمال التراحيل يمارسون الكفاح من أجل «اللقمة والهدمة». أما المحظوظون من أبناء الصفوة الغنية فليس عليهم سوى الاستمتاع بالثروات الموروثة دون جهد، وهم يرددون الجملة الشهيرة: «أشتغل ليه؟ هو أنا محتاج؟!». • • • شعرنا برغم صغر سننا أننا محظوظات لأننا نعيش لحظة «الحراك الاجتماعى الصاعد» وأن أبواب المستقبل الباهر لم تعد قاصرة على أبناء القادرين بقدر ما صار العلم متاحا للفقراء وصار الموهوب الضعيف هو الذى يقود حركة النهضة الاجتماعية والثقافية. وأتاحت سياسة مجانية التعليم التى عشناها فى الستينيات لمصر أن تتعالى على الأمم الأخرى بتفوق أبنائها العلماء فى شتى المجالات ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: الدكتور (أحمد زويل) فى العلوم، والدكتور (فاروق الباز) مدير وكالات الفضاء، والدكتور (مجدى يعقوب) عبقرى عباقرة أطباء القلب. والمذهل أن البعض ممن أفادهم قرار مجانية التعليم ورفع شأنهم اجتماعيا وعلميا، قد بدأوا يتنكرون لسياسة مجانية التعليم ويلصقون بها ما يعانيه التعليم من قصور فى ظروفنا الراهنة. وهم يتجاهلون عن عمد أنهم بالتعليم وحده قد حققوا مكانتهم الاجتماعية التى صاروا إليها. وهنا تذكرت تلك الأغنية التى غناها صاحب الصوت الشجى (عبدالحليم حافظ) بكلمات عبدالرحمن الأبنودى فى احتفالات «عيد العلْم» فى الستينيات: إن لم يكون العلم مصباح للغلابة.. إن لم يزيح العتمة والخوف والضبابة.. لا فايدة فى كتابك ولا سهرك وعذابك.