المشهد الأول: «اندفعنا لنصطف فى طابور الصباح عقب أن سمعنا صوت الجرس، خاصة أننا لاحظنا أن أبلة (زينب حسنى) مديرة مدرستنا قد اتخذت موقعها أمام الميكروفون لتعلن النبأ الذى كنا ننتظره منذ يومين: لسوف يصل الرئيس اليوم عائدا من اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن حقق نصرا عالميا غير مسبوق لمصر. فقد حظيت قراراته واقتراحاته على أغلبية الأصوات من الدول المحبة للسلام. كما لاقت دعواته للحياد الإيجابى والتعايش السلمى وعدم الانحياز، لاقت إعجابا من رؤساء الدول التى نالت حريتها من الاستعمار حديثا فى آسيا وإفريقيا. وأنا أدعوكن يا بنات مدرسة غمرة للمجىء فى الرابعة بعد ظهر اليوم للاصطفاف أمام مدرستنا لنكون فى استقبال موكب الرئيس الذى سيمر فى شارع رمسيس فى طريقه عائدا إلى قصر القبة وسوف نحرص على رفع علم مصر ولافتات الترحيب بعودته المظفرة إلى الوطن». فصفقْنا سعيدات واندفعنا ننشد بحماس: «ناصر كلنا بنحبك». • • • المشهد الثانى: فى الرابعة مساء، كانت فتيات المدرسة تتدافعن للوقوف فى الصفوف الأمامية لتلوح للرئيس عندما يظهر موكبه الذى كانت تسبقه فى العادة بعض الدراجات النارية وهى تطلق الصفارات التى صارت علامة معروفة على اقتراب الموكب الصاخب، والذى كان فيه الزعيم يتيح للجماهير الاقتراب منه دون حواجز أمنية فكان من الطبيعى أن يمد الزعيم يده لكل من أراد مصافحته وكان الرجل يتيح نفسه للجماهير العاشقة لبطلها حبيب الملايين، ليس فى مصر فقط ولكن فى جميع الدول التى استقبلته بحفاوة جماهيرية منقطعة النظير والتى سجلتها الكاميرات فى كل من دمشق والخرطوم ونيودلهى ويوجوسلافيا، ناهيك عن عواصم الدول الأفريقية التى توجتْه زعيما للتحرر الوطنى من الاستعمار الأجنبى. وكلنا نتذكر كيف حملت الجماهير سيارته فى شوارع دمشق فى زيارته الأولى لسوريا الحبيبة. وإلى جوارى فى انتظاره، فوجئت بصديقتى (نجاح) وهى زميلتى فى الفصل وابنة الجيران فى منزلنا الكائن فى العباسية، والذى كان قرْبه من الشارع الرئيسى يتيح لنا مع الجيران أن نهرع إلى الشارع فور سماع الصفارة المميزة لموكب الزعيم. • • • المشهد الثالث: وما أن ظهرت بوادر موكب الرئيس حتى تدفقت الجماهير الذائبة فى عشق (ناصر) إلى سيارته وهو يحييها بابتسامته الساحرة والتى كان الجميع يشعر أن الزعيم يختصه بتلك الابتسامة. وفيما نحن نهتف باسمه ونلوح لحبيب الملايين، فوجئت بصديقتى (نجاح) تصرخ «سأجرى إليه لأصافحه كما فعل الناس»، وفى لحظة كانت نجاح قد اندفعت إلى السيارة المكشوفة للزعيم دون أن تلاحظ الدراجة البخارية القادمة من حرس الرئيس، والتى حاول قائدها تفادى الصغيرة المندفعة إلى سيارة الزعيم. فلم يتمكن إلا من إزاحة الصغيرة قدر ما يستطيع وفقدت (نجاح) توازنها لتسقط على الأرض وتم انتشالها بسرعة. فتوقف الموكب بعد أن صرخ الرئيس بأعلى صوته: «قفوا وطمنونى على الصغيرة». وتوقف الموكب لنقوم جميعا بسحب (نجاح) بسرعة إلى الرصيف لنجدها مصابة فى قدمها إصابة طفيفة. فجاءت الإسعاف بسرعة لتحملها للمستشفى، حيث قرر الطبيب أن الصغيرة بحاجة إلى راحة لمدة أسبوع، بعد أن لف قدمها بجبيرة. • • • المشهد الرابع: فى طابور الصباح بعد يومين من الحادث، وقفنا نتذكر حادثة (نجاح)، ونتفق على زيارتها فى المساء للاطمئنان عليها، لتفاجئنا أبلة الناظرة من منصتها بعد ضرب الجرس مبكرا عن موعده ببضع دقائق. فأسرعنا للاصطفاف على عجل فى الطابور لنسمعها تهتف بسعادة بالغة: «يللا يا بنات مدرسة غمرة الإعدادية علشان عندى ليكم رسالة مهمة جدا!» وبدأت المعلمات يصرخْن فينا طلبا للهدوء والصمت التام. فبدأت أبلة الناظرة تتلو من ورقة زرقاء قائلة: «الجواب ده جالى بالأمس من الرئيس (جمال عبدالناصر). ومطلوب منى أن أقرأه فى طابور الصباح بالنيابة عن الرئيس عليكن يا بنات!». واتسعت الابتسامة الفخورة على وجوهنا ونحن نستمع إلى كلماته: «بناتى وزهراتى العزيزات.. كم أنا فخور بكن وأنا أتطلع إلى مستقبل مصر. فأراكن فى مقدمة الصفوف بالعلْم والوطنية التى تتمتعن بها، لكى يرى العالم منكن التفوق والنبوغ كقيادات نسائية تستطيع تحمل المسئولية كالرجال تماما!». وبدأنا نرفع رءوسنا فى زهو ونحن نردد: «الرئيس بيحبنا وفرحان بينا يا أبلة». فتنهدت الناظرة فى حزن أثار قلقنا. وعادت تقول: «استنوا بقية الخطاب» وأكملت كلماته: «لكنى حزنت للغاية وأنا ألمس ذلك الاندفاع الذى تتصرفن به. وتلك الحماقة التى تدفعكن لتلك التصرفات الهوجاء لحظة مرورى أمام مدرستكن. فأنا أب لبنات مثلكن وأشعر بقلق الأب الذى أصيبت ابنته فى تلك الحادثة..». وتبخرت الابتسامة الفخورة التى علت وجوهنا منذ لحظات، لتحل محلها سحابة من القلق والحزن، ونحن ننزوى من الخجل تحت وابل من تأنيب الرئيس الذى كانت أبلة الناظرة تتلوه بصوت غاضب. وبالتدريج بدأنا نكتشف بفزع أننا أغضبنا «بابا جمال» كما كنا نناديه. وبدلا من أن تبْلغه رسائل الحب الغامر الذى حملناه له فى قلوبنا إذا بنا ندفع ثمن الحماقة التى ارتكبتها زميلتنا فنثير غضبه الأبوى بدلا من استحسانه. وبدأنا نقطب الجبين بخجل ثم بدأنا نبكى فى رقة ثم صار صوت البكاء عاليا بعد أن أجهشت بنات المدرسة جميعا فى بكاء جماعى بصوت عال ونشيج، ونحن نتخيل أنه سيكف عن تلقى رسائل حبنا وهتافنا اليومى ونحن نغنى: «ناصر كلنا بنحبك.. ناصر وحنفضل جنبك ناصر.. وتعيش ونقولك ناصر يا حبيب الكل يا ناصر!». وبدأت أبواب المدرسة تقرع بأيدٍ كثيرة وذهبت الناظرة والمعلمات إلى البوابة لتسأل الذين يقرعون الباب «ماذا تريدون؟» فأجابها عدد ممن تجمعوا قائلين: «صوت بكاء البنات الجماعى أثار قلقنا فأجيبينا ما الذى يحدث لبناتك فى الداخل وما الذى يتعرضن له عندك؟» وابتسمت حضرة الناظرة قائلة: «لا داعى للقلق على البنات فهن قد تعرضن للتأنيب منذ برهة من بابا جمال!». وفى اليوم التالى، زفت الناظرة خبرا جعلنا نطير من الفرح. فقد فسرت فى حديث الصباح قرار مجانية التعليم الذى أعلنه الرئيس (ناصر) وكنا نظن أن هذا القرار سوف يتم تطبيقه فى العام التالى لاتخاذ القرار. وبهذا، يتم إعفاؤنا من دفع مبلغ جنيهين وسبعين قرشا، كانت هى المصروفات السنوية لطالبة المدرسة الإعدادية ولكن أبلة الناظرة تهتف بنا فى الميكروفون قائلة: «لا يا بنات القرار الذى اتخذه الرئيس سيتم تنفيذه بأثر رجعى. يعنى عليكن الاتجاه إلى خزينة المدرسة لاسترداد ما قمتن بدفعه فى بداية العام». وفى ذلك اليوم، عدنا إلى بيوتنا نحمل لأهلنا هدية مجانية التعليم التى مكنتنا نحن بنات الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى من مواصلة رحلة العلم لأقصى مدى. تذكرت هذه الحادثة وأنا أتجه إلى ضريح الزعيم الخالد لأقرأ الفاتحة وسط زحام الجماهير. فاصطدمت بسيدة أنيقة تهتف فى لهفة: «كنت عارفة إنى سأقابلك هنا»، فصحت بسعادة: «نجاح» وحشتينى فقالت اتركينى لأقرأ الفاتحة على روح حبيب الملايين «بابا جمال».