لأن المصريين لم يتوصلوا بأنفسهم إلى صيغة الديمقراطية من واقع الاحتياجات والتحديات شأن الغرب الأوروبى فى تطوره، فقد أصبح تحقيق الديمقراطية فى مصر من رابع المستحيلات. والحكاية أن المصريين عندما أطلوا على صيغة الديمقراطية فى الغرب فى منتصف القرن التاسع عشر بما تعنيه من دستور وأحزاب تتداول السلطة عبر الانتخابات..إلخ، لم يدركوا أن وراء تلك الصيغة صراعا طبقيا مريرا بدأ مع دولة المدينة فى أثينا فى القرن الخامس قبل الميلاد حول من هم أصحاب الحق فى الحكم.. هل كل أهل المدينة «الشعب» أم أصحاب المصالح ممن يملكون؟. وانتهى الأمر إلى أن الحكم يكون لأصحاب المصالح لكى يحموا مصالحهم عن طريق القوانين والتشريعات، ومن هنا جاءت قاعدة «من يملك يحكم». فلما احتكر أصحاب المال الثروة والسلطة بدأت إضرابات العمال واعتصاماتهم لكى يدافعوا عن حقهم فى الحياة، فاضطر أصحاب المصالح لتقديم تنازلات حتى لا يفقدوا الثروة والسلطة معا. وقد أدى هذا الجدل بين العمل ورأس المال إلى التوصل إلى صيغة متطورة لمشروعية حكم أصحاب المصلحة «الديمقراطية» وتتلخص فى أن أصحاب رأس المال يحكمون وللعمال تكوين النقابات والجمعيات للدفاع عن المصالح باللجوء إلى المفاوضات والمساومات قبل إعلان الإضراب. وبمقتضى هذه الصيغة أصبح العمل أقوى من رأس المال فى بلاد الغرب الأوروبى - الأمريكى ولا يزال. أما نحن فى مصر.. فقد أردنا أن ننعم بالديمقراطية هكذا كما رأيناها فى آخر طبعاتها فى بلادها دون مقابل من نضال وصراع اعتقادا أن مطلب الديمقراطية مطلب عادل ينبغى على الحاكم الاستجابة له طواعية واختيارا، وهذا هو الخيال بعينه. ولشرح هذه الحالة الملتبسة فى مصر يتعين الرجوع قليلا إلى التاريخ لتفسير الظاهرة. فعندما توصلت حضارة اليونان إلى صيغة الديمقراطية كانت مصر تعيش فى كنف الملك - الإله الواجبة طاعته، فلما وقعت تحت سيطرة البطالمة اليونانيين لم يشهدوا ديمقراطية دولة المدينة، وكذلك الحال زمن الحكم الرومانى. ولما أصبحت ولاية إسلامية مع الفتح العربى الإسلامى أصبح الحاكم ولى الأمر الواجبة طاعته أيضا. وظل الأمر كذلك طوال الحكم الإسلامى بالمعنى الاصطلاحى مع تغير مركز السلطة من المدينةالمنورة إلى دمشق إلى بغداد ثم إلى إستانبول مع العثمانيين، ثم ما كان من انفراد محمد على باشا وأولاده بحكم مصر «1805-1952». وعندما أعلن الدستور فى مصر عام 1923 كان نظام الحكم يقوم على فلسفة أبوية الحاكم دون اعتبار للدستور، فلم يكن مسموحا بتكوين النقابات العمالية للدفاع عن العمال شأن الغرب، والجمعيات الأهلية فى قبضة الدولة منذ أواخر القرن التاسع عشر ومحظور عليها الاشتغال بالسياسة أو الدين. وبسبب هذه الصيغة الشوهاء والموروثة لطبيعة الحكم فى مصر انقلبت الموازين، وانعدم التمييز، وساد الجهل بطبيعة العمل السياسى، واختلطت الأدوار بالوظائف.. فالنقابات العمالية والمهنية التى هى فى الأصل تنظيمات لترقية المهنة وحماية علاقات العمل تحولت إلى القيام بدور سياسى وتركت وظيفتها الأساسية. والمتصارعون على مقاعد النقابات لا يستهدفون ترقية المهنة بقدر ما يستهدفون القيام بدور سياسى فى التنافس على الحكم، وأصحاب الأعمال الحكام لا يريدون السماح بتكوين النقابات وإذا سمحوا فإنهم لا يسمحون بالإضراب. وهكذا.. فكلما تعمقت الديمقراطية فى بلادها، تعمق الاستبداد فى بلادنا من أعلى الوظائف إلى أدناها، فكل مسؤول فى إدارته يمارس الديكتاتورية بالفطرة لكنه لم يتعلم الديمقراطية لا لشىء إلا لأنها لم تفرض عليه فرضا مثلما حدث فى أصول التجربة عالميا. والمأساة أننا مازلنا أسرى موروث ثقافى صار معبودا.