منذ بدأت السلطة فى التاريخ والمحكومون انشغلوا بفكرة الحاكم العادل، وأصبح العدل ضالة الشعوب، خاصة أولئك المجردين من أى قوة تحميهم فى مواجهة السلطة. ولقد كثرت الكتابات الافتراضية حول ماهية الحاكم العادل منذ فترة مبكرة من التاريخ دون جدوى، حتى لقد قال أفلاطون الفيلسوف اليونانى فى القرن الرابع قبل الميلاد «إن الحاكم لكى يكون عادلاً ينبغى ألا يتزوج وألا يملك لأنه فى الحالتين سوف يميل فى قراراته ويصبح بالضرورة منحازاً». وفى فترة لاحقة فى العصر الوسيط ثم الحديث -فى الشرق والغرب على السواء- انشغل المفكرون بكتابة تصوراتهم عن الحكم العادل فيما عرف بالمدينة الفاضلة عند الفارابى، ومدينة الشمس عند كمبانيلا (الإيطالى)، وتوماس مورو الإنجليزى فى مدينته (يوتوبيا).. إلخ. وفى مصر ومنذ عرف المصريون سلطة الملك - الإله زمن الفراعنة وهم يسلمون قيادهم له باعتباره واهب الحياة، وكل ما كانوا يطلبونه أن يسوس أمورهم بالعدل والرحمة. ومع نزول الأديان السماوية لم يعد الحاكم إلهاً، لكن المصريين ظلوا يتعاملون معه على أساس أنه اختيار إلهى، له مكانته واحترامه فاستمر يتحكم فى أمورهم. ولما كان هذا الحاكم يمسك بكل خيوط الحياة فى يده ولا معقب لكلماته فقد نشأت أزمة ثقة بينه وبين المحكومين، واجتهد المصريون فى كيفية الالتفاف حول الأوامر والقوانين التى يصدرها لتحقيق مصالحهم التى يأبى الحاكم أن يحققها لهم حتى لقد شاع بين غالبية المصريين مقولة إن «سرقة الحكومة حلال». وهذا التطور فى العلاقة بين الحاكم والمحكوم على مدى أزمان طويلة جعل المحكومين يعتمدون اعتماداً كلياً على الحاكم فى قضاء حوائجهم أيما كانت كبيرة أو بسيطة، وعندئذ يصبح هذا الحاكم محل تقدير واحترام وتصبح طاعته واجبة. أما إذا تأخر فى قضاء الحوائج أو امتنع عامداً متعمداً انهالت عليه اللعنات من كل حدب وصوب، ورفع الناس أكفهم إلى السماء ابتهالاً إلى الله لكى يزيل الغمة من طريقهم ويفرج كربهم. وهذه الدولة تعرف فى الفكر الاجتماعى بالدولة «المعيلة» أى التى تعيل رعاياها من المهد إلى اللحد فيسبح الناس بحمدها، ويدعون للحاكم بطول العمر. ولقد عرف المصريون فى تاريخهم الحديث على الأقل هذه الدولة «المعيلة» مرتين: الأولى كانت زمن حكم محمد على باشا حين أمسك بخيوط الأحوال الاقتصادية والاجتماعية فى يده لبناء القوة ونجح فى ربط المصريين بسياسته حين جعل التعليم مجاناً وأوجد الوظيفة للمتعلم فور انتهائه من دراسته، وحين قام بمنح مساحات من الأراضى لصفوة من أبناء المجتمع لكى يرتبطوا به ويؤيدوه بحق الانتفاع، وهذه السياسة هى التى أنتجت الطبقة الوسطى فى مصر من عموم الموظفين والفنيين فى سائر المصالح والهيئات الحكومية. والمرة الثانية كانت زمن حكم عبدالناصر، حين جعل الدولة تقوم بالدور الاقتصادى والاجتماعى وأخذ من الأغنياء وأعطى الفقراء فاطمأن الناس على يومهم ومستقبلهم فأصبح «حبيب الملايين» ولهذا لم تقم ثورة اجتماعية ضده بسبب غلاء الأسعار أو تفشى البطالة. أما بين دولتى محمد على وعبد الناصر فكان المصريون أمام «الدولة الظالمة» حيث الحكم فى يد الأغنياء من كبار ملاك الأراضى الزراعية وأصحاب رأس المال الصناعى والتجارى الذين اهتموا بحماية مصالحهم على حساب الفقراء، فكان التوتر الاجتماعى قائماً وأتاح الفرصة لظهور الأفكار والحركات المعادية للحكم. وكذلك الحال بعد عبدالناصر حيث رفعت الدولة يدها عن الدور الاقتصادى - الاجتماعى وتركت الأمور لأصحاب رأس المال الذين عادوا للحكم مرة أخرى واحتكروا الحياة السياسية، خاصة زمن مبارك، ومن هنا انفجرت الثورة فى 25 يناير كما هو معروف (2011). والآن يواجه المصريون مشقة اختيار الدولة الجديدة بمقتضى انتخابات الرئاسة القادمة، وغالب الظن أنهم سوف يختارون بحسهم التاريخى الدولة «المعيلة» التى ترعى مصالحهم، وحينئذ يحدث التماسك الوطنى والالتفاف حول الرئيس الجديد. وعلى هذا الأساس فإن الفرصة متاحة للدولة المعيلة وهى الدولة المدنية ذات الطابع الليبرالى أو الاشتراكى، وهناك بين المرشحين من يمثلها. أما الدولة الدينية التى يمثلها الإسلاميون أيا كان اسمهم فلن تحظى بتأييد غالبية المصريين لأن هؤلاء الناس يعيشون خارج الزمن، فضلاً عن أنهم أصحاب مصالح رأسمالية تستهدف الربح أولاً وأخيراً.. ورأس المال عادة لا يعرف الوطن أو الدين أو الملة.