السيطرة على حريق بمصنع كريازي في العبور (صور)    السيطرة على حريق بمصنع "كريازي" في العبور    السيطرة على حريق أعلى سطح منزل في البلينا دون إصابات    ردا على الأهلي، ماذا فعل الزمالك مع زيزو قبل لقاء القمة؟    حسين الشحات: لن أرحل عن الأهلي إلا في هذه الحالة، والتتويج أمام الزمالك أسعد لحظاتي    تنسيق الكليات 2025، الحدود الدنيا لجميع الشعب بالدرجات والنسب المئوية لطلبة الثانوية بنظاميها    شركة مياه الجيزة تكشف لتليفزيون اليوم السابع موعد عودة الخدمة.. فيديو    بعد 26 ساعة من العمل.. بدء اختبار الكابلات لإعادة التيار الكهربائي للجيزة    الداخلية: وفاة نزيل عقب نقله من محبسه إلى المستشفى بالدقهلية    بحضور 4 آلاف مشاهد.. افتتاح المهرجان الصيفي للأوبرا في الإسكندرية بحضور وزير الثقافة والمحافظ    إسرائيل تفرض رقابة عسكرية مُشددة على المُراسلين الأجانب الراغبين في دخول غزة    مقتل 4 على الأقل إثر خروج قطار يحمل نحو 100 راكب عن مساره جنوب ألمانيا    الاحتلال يقصف حَيَّيْ التفاح والشجاعية في مدينة غزة    تمارا حداد: الهدنة الإنسانية.. خطوة سياسية تكتيكية لشرعنة الحصار واستمرار الحرب على غزة    مستشار ترامب ل "الفجر": إيران تلقّت ضربة عسكرية مباشرة بأمر من ترامب بسبب برنامجها النووي    تنسيق الثانوية العامة 2025.. مؤشرات كليات الطب البيطري 2024 المرحلة الأولي بالنسبة المئوية    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بمدينة الخانكة    إدريس يشيد بالبداية المبهرة.. ثلاث ميداليات للبعثة المصرية فى أول أيام دورة الألعاب الإفريقية للمدارس    الصفاقسي التونسي يعلن تعاقده مع علي معلول.. والتفاوض مع لاعب الزمالك    جدول مباريات الزمالك في الدور الأول من الدوري المصري الممتاز موسم 2024-2025    الغندور يعلن رحيل نجم الزمالك.. ويكشف وجهته المقبلة    خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء.. " كامل الوزير" يستعرض خطة تطوير الطريق الدائري الإقليمي    وزير الزراعة: تجاوز صادرات البطاطس 1.3 مليون طن للمرة الأولى    وزير السياحة: ارتفاع معدل إنفاق السائحين... وتوقعات بتجاوز حاجز 18 مليون زائر بنهاية العام    الحوثيون يعلنون عن خطوات تصعيدية جديدة ردا على الحرب فى غزة    الأرصاد تحذر من ارتفاع الأمواج في عدد من الشواطئ (تعرف عليها)    إصابة 5 أشخاص بحادث انقلاب سيارة في البحيرة    صور حادث تصادم قطار خط المناشي بجرار زراعي في البحيرة    رابطة العالم الإسلامي: مؤتمر "حلّ الدولتين" فرصة للوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ    أحمد نبيل: تعليم الأطفال فن البانتومايم غيّر نظرتهم للتعبير عن المشاعر    وزير السياحة: ترخيص 56 وحدة فندقية جديدة و60 طلبًا قيد الدراسة    «اللي بيتكلم مجنون».. مدحت شلبي يهاجم مسؤول في الأهلي بتصريحات قوية    متخليش الصيف ينسيك.. فواكه ممنوعة لمرضى السكر    معاناة حارس وادي دجلة محمد بونجا.. أعراض وأسباب الإصابة ب الغيبوبة الكبدية    سعر الدولار فى التعاملات الصباحية اليوم الاثنين 28-7-2025 فى البنوك    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. استشهاد 4 فلسطينيين فى قصف الاحتلال على خان يونس.. هزات أرضية وصلت ل3.8 درجة بمقياس ريختر فى ميانمار.. مقاتلون سابقون فى طالبان نقلوا لبريطانيا حفاظا على سلامتهم    طه عزت: الموسم المقبل بلا تأجيلات.. وهناك تنسيق مع حسام حسن بسبب الأجندة الدولية    أم وابنها يهزمان الزمن ويصنعان معجزة فى الثانوية العامة.. الأم تحصل على 89% والابن 86%.. محمد: ليست فقط أمى بل زميلتي بالدراسة.. والأم: التعليم لا يعرف عمرا وحلمنا ندرس صيدلة.. ونائب محافظ سوهاج يكرمهما.. فيديو    المعهد القومي للكبد: مصر حققت إنجازًا عالميًا في القضاء على فيروس "سي"    «قالوا لي إني ميتة».. أنوار تروي مأساة 9 سنوات انتهت باختفاء الزوج ووقف المعاش    حددت شروطا للظهور به وارتدته وخلعته قبل 11 عاما.. قصة سما المصري مع الحجاب بعد «فيديو البكاء»    دفاع أحد ضحايا سفاح المعمورة بعد الحكم بإعدامه: طالبنا بتعويض مدنى مليون جنيه    مدرب بيراميدز عن موعد مباراة دجلة: اللعب فى حرارة 45 درجة تهديد لصحة اللاعبين    الباذنجان مهم لمرضى السكر والكوليسترول ويحمي من الزهايمر    بعد توقف 11 عاما.. رئيس حقوق الإنسان بالنواب يُشارك في تشغيل مستشفي دار السلام    رغم ارتفاع درجات الحرارة.. قوافل "100 يوم صحة" تواصل عملها بالوادى الجديد    رفضت عرسانًا «أزهريين» وطلبت من زوجها التعدد.. 19 معلومة عن الدكتورة سعاد صالح    في الحر الشديد.. هل تجوز الصلاة ب"الفانلة الحمالات"؟.. أمين الفتوى يوضح    محافظ الوادي الجديد ينعى مدير الأمن الراحل إثر حادث سير بالمنيا    البابا تواضروس يصلي القداس مع شباب ملتقى لوجوس    شاهد.. توجيهات الرئيس السيسي اليوم ل3 وزراء بحضور مدبولي    جامعة أسيوط تشهد فعاليات اللقاء العلمي "GEN Z ANALYSTS" بكلية التجارة    هل الحر الشديد غضبًا إلهيًا؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    بتوجيهات شيخ الأزهر.. قافلة إغاثية عاجلة من «بيت الزكاة والصدقات» في طريقها إلى غزة    تخفيض الحد الأدنى للقبول بالثانوي العام في الغربية إلى 225 درجة    مصر تنتصر ل«نون النسوة».. نائبات مصر تحت قبة البرلمان وحضور رقابي وتشريعي.. تمثيل نسائي واسع في مواقع قيادية    وزارة التربية والتعليم تعلن بدء تحويلات المدارس الدولية IPS    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية أسد قصر النيل للروائى زين عبد الهادى
نشر في اليوم السابع يوم 26 - 10 - 2011


زحمة يادنيا زحمة..
اعتراف مبدئى بأننى من المتيمين بأحمد عدوية..
الفنان الحقيقى للجمهورية أو الملكية التى نعيش بها.. العَالِمْ ببواطن الأمور وخفايا الصدور.. أحد أبناء سنوحى العظام .. لم تأت أغنيته عن الزحمة إلا بناء على فحص أرسطى للحياة البعرورية .. حيث يتقاسم الناس هناك حقائق مبتسرة عن الحياة، حياة يختلط فيها الوهم بالحقيقة حتى غير المكتملة، وحين يصبح الحشيش هو مصدر الغناء الروحى وبلا مبالغات من أى نوع، يمكنك أن تدرك ببساطة، أن الوهم هو أساس الحياة فى طيبة، حياة أهل طيبة.
ها أنا فى نفس المكان الذى وقفت فوقه منذ عشرين عاما، استيقظت اليوم وأنا فوق الرصيف فى الثانية ظهرا، أتخيل (إيزائيفتش) وأتخيل جرسونه الشهير (جمعة)، ألاحظ أرضية الرصيف، تغيرت هى الأخرى، كانت تحتلها غطيان زجاجات السيكولا والسيدر وأعقاب السجائر الكليوباترا( ) والبلمونت والبوسطن، وقصاصات الجرائد الحكومية التى كانت قبل قليل ممتلئة بساندوتشات الفول والطعمية، كان هناك خبر قد لفت نظرى ولا أعرف السبب الحقيقى فى تذكرى له دائما، كان يتعلق بمطرب شعبى اسمه أحمد عدوية تعرض لحادث فى الفندق الذى كان يقيم به، حادث تعلق بذكورته، لم يمت، لكن ظل الخبر كخيوط العنكبوت لايبارح ذاكرتي، كما كانت تتناثر على الأرض تذاكر الأتوبيسات واليانصيب، وخيالات للمينى جيب والمايكرو تمرح فى الميدان، الآن تراجعت كل هذه الأنواع واحتلت الأرضية مناديل الكلينيكس والفاى الورقية وتذاكر المترو، اختفت أعقاب سجائر البلمونت والبوسطن وأوسعت الطريق لسجائر أجنبية أخرى من نوع المارلبورو والميريت والروثمان الذهبية التى اختلطت بأعقاب الكليوباترا، وفوارغ البيبسى وحلقاتها المعدنية، وببطاقات منتهية لشركات المحمول موبينيل وفودافون واتصالات، والصفحات الأولى لجرائد الحكومة التى يلقى بها الناس بعد تصفح مانشيتاتها سريعا وغالبا مايستخدمونها كغطاء لموائد الطعام، وعلب الماكدونالدز والهارديز والنساء المحجبات والمنقبات، حتى "قطرات المطر" الواقفات متكئات على السور الحديدى فى قلب الميدان تحجبن، كأنه فريضة أن لا تقابل الناس إلا بالحجاب، وتمارس الجنس بنفس الحجاب، ولاحظوا معى أن مصطلح ممارسة الجنس مصطلح محترم وبغيض فالطيبيون يستخدمون مصطلحا آخر لا أجرؤ على ذكره هنا، لكنى سأفكر فى الأمر، تغير قفا (قاف) كما تغير وجهها، وأنا تحملت بعض التجاعيد وآلام الرقبة، وذاكرة ممتلئة بالبقع السوداء، ووجهاً ينتمى انتماء لاشك فيه للكلاب البلدى التى كادت أن تنقرض هى الأخرى.
لكن.. من أنا؟؟؟...
هناك أمر فى حياتى قد حدث، لكنى لا أتذكر هذا الأمر، وحين يسألنى أحدهم تتحول رءوسهم نحوى ببطء لايكاد يرى، أجيب بقلب مخلص وبعقل به نتوءات من مساحات بيضاء لاترى،
"لا أتذكر!"
حينها يستقبلون إجابتى بنوع من الابتسام الذى يلفه شك له هوية تاريخية محددة. قال الجميع بأننى كما اختفيت فجأة، ظهرت فجأة، لا أحد يعلم لماذا؟ .. يتكلمون بيقين لم أستطع زعزعته يوما ما، بينما كان الشك يملؤهم نحو كل شىء يسمعونه. أعلم أنها واحدة من الطباع الأصيلة لأهل طيبة، فهم أيضًا يفقدون الذاكرة لسنين طويلة، أو هكذا يتقولون، قد يبدو أن الأمر لايعنيهم، وربما يضحكون، يدعون أنهم لا يرون شيئا، ربما يتوارون سريعا فى خجل أو غضب وبلا تعليق، أو يقفون يحاولون تفسير ما لا يراه أحد بكلمات صادرة عن وعى يمكن تحضيره كعفريت من الجن ثم صرفه سريعا، يفسرون المرئى بما هو غير مرئي، أساتذة فى الميتافيزيقا، يأخذونك بعيدا عن التفسير الحقيقى للحدث، لكنهم يكتمون الحقيقة كعاشق ماجن ينتظر لحظة الانقضاض، عيونهم التى ترى غير عيونهم التى تفسر، منذ آلاف السنين وهم يلبدون فى حقول الذرة وقصب السكر، خلف الأبواب وتحت السلالم وفى نهايات العربات المزدحمة، مختفين فى قلب الظلام وفى غابات الظلال، غبى من لا يراقب ملامحهم جيدا، غبى من لا يتفحص، يأتى بعض الأغبياء دائما يسبقهم إيمانهم الراسخ بأنهم يفعلون لهم الصواب، وبأن طيبة ستكون هى الأعظم بين الشعوب تحت قيادتهم، وهو مالم يحدث على الإطلاق، إلى أن يأتى يوم الحساب.. وهو عادة لا يتأخر، ربما يتأخر.. يتلكأ فى الطريق.. ربما يمر جيل وبعض من جيل.. لكنه قادم .. قادم لا محالة !.
أحاول جاهدًا أن أتذكر،
سأبدأ من تلك اللحظة التى ضرب فيها شهاب صغير سقف العواصم الأربع التى تمتد على مساحة ألفى كيلو متر مربع تقريبا، ولم يهتم أحد من قاطنيها لذلك، فقد كانوا جميعا مشغولين، وبشغف لايقل عن شغفهم التاريخى بالخلود، مشغولين بمتابعة مباراة كرة قدم فى ستاد عظيم تحتله صورة ملونة بحجم هائل "للمسكوت عن اسمه" ( ) تشبه إلى حد بعيد التماثيل الهائلة التى خلفها لهم أجدادهم فى الصعيد، تماثيل ضخمة هائلة تبرز دائما سطوتهم القديمة على الحياة، سطوة ما قبل الموت وحتى ما بعد الموت، ترك لهم أجدادهم آلهة، أما تلك الصورة فتبدو كبدعة تمت استعارتها من أجدادهم، تمت محاكاتها فى عصر النهضة، ثم سكنت بعض الوقت لتعود مع الحقبة البلشفية والشيوعية، أو حتى فى المعسكر الرأسمالى فى بداية العصر الصناعي، وبدورهم نقلها سادة الأمن نافخو أبواق محبة "المسكوت عن اسمه" مرة أخرى إلى طيبة، على أيديهم المخلصة تكررت عادة كانت قد اندثرت منذ آلاف السنين.
هذه المباراة بين فريقين من عاصمتين ينتميان لنفس الدولة، عاصمتين لا يفصل بينهما أكثر من أربعمائة متر بشكل طولي، هذه الأمتار الأربعمائة يمتد فوقها معبر ينتمى لعصور ما قبل التاريخ، يشق العاصمتين من القلب وهو أحد العلامات الأسطورية لدولة طيبة القديمة، هذا المعبر يسمى الآن "كوبرى قصر النيل".
ربما لا يعلم أحد أيضًا أن هذا المعبر الذى يرقد هناك كملتقى للعواصم الأربع – وسآتى للحديث عنها - قد هبط أيضًا من السماء. لم يُذكر ذلك فى مخطوط قديم أو على حجر الأهرامات، أو على سعف نخيل، أو رأس سهم متحجر فى صحراء الفيوم، أو حتى على رق تعفَّن فاحت رائحته يعود لأيام الجاحظ، ولم تعزف موسيقى حسب الله أو الموسيقى العسكرية لما ذكر، بل ربما لم يسمع به أحد، فقط ذكر ذلك – وهو أمر غريب- على جمجمة يعتقد بأنها لملك طيبى قديم، راح فى ثورة من ثورات تلك الأيام البعيدة. وإن كان هناك شك أيضًا فى أن الجمجمة تنتمى لقرد إفريقى شبيهة فى تكوينها بعبيد تلك الأيام، وهو تفسير تشريحى وأنثروبولوجى أكثر غرابة؛ إذ عادة لايقع هؤلاء العلماء فى هذا التفسير القلق إلا إذا كانت الجمجمة تنتمى لإحدى حلقات التطور البشري، وهو مايلقى بظلال من الشك على الأمر برمته. ويقال أيضًا بأنها مؤامرة تتعرض لها طيبة، بهدف النيل من شرفها التاريخى الذى لاتضارعها فيه أمة من الأمم.
المثير أيضًا هى آثار مخالب حيوان ضار ضخم تظهر واضحة على مقدمة الجمجمة، بينما تركت خلفية الجمجمة سليمة تمامًا وعليها بعض الكلمات المحيرة بلغات ثلاث، هى اليونانية أو لغة الحكام فى ذلك الوقت والهيروغليفية المقدسة والديموطيقية العامية، مما يضفى على الجمجمة نوعا من السخرية القارحة الجليلة التى لا سبيل لحل طلاسمها.
بمرور الوقت أغفل ذكر هذه القطعة من الجمجمة، وقيل إن سبب هذا الإغفال هو ذلك الصراع بين العواصم الأربع التى تحكم كل منها جزءًا من الدولة؛ وإن كان هذا غير منطقى أيضًا لأن هناك عاصمة لا تهتم بمثل هذا الهراء، لأن مسألة "الاهتمام" قضية لا تلائمها من الأساس، وهى ليست معنية بمثل هذه الخرافات التى لا طائل من ورائها، وإنما لديها خرافاتها البديلة المتعلقة بما يسكن الجسد من عفاريت تبريرا لمخزونها من القمع، وكذلك بطولاتها التى يهملها التاريخ كلما أنتجت لجنة تابعة للحاكم كتابا للتاريخ ينكر بطولاتها الحقيقية المسكوت عنها، وأيضا تاريخها الطويل الذى أنتج "السح الدح"، وبدون شك هناك شواهد ممتازة لكنها متناثرة على انتمائهم الحقيقى للفراعنة بدليل "أمبو" الموجودة فى الأغنية والتى تنتمى للمفردات الهيروغليفية، وصولا إلى أغانى الحشيش كبديل غير محرم عن أغانى ذات علاقة آثمة بثقافتهم، وهذه الأغانى لها روادها العظام خصوصًا فى الألفية الجديدة كدليل واعتراف كامل منهم على أنهم لا يبحثون عن الحياة على الإطلاق ، وإنما عن الأوهام، وهم يعترفون بمحبة وتسامح أنه لولا هذه الأوهام ما كانت الحياة، خصوصًا فى طيبة.
منذ قديم الأزل والوهم فيما يمكن تحقيقه هو مبعث وجودهم الحقيقي. فى نظر البعض ممن يعيشون فى بعض القارات الأخرى أنها أحط الأوهام فى الحياة، وهو تجنٍ واضح تمامًا فى ظل عدم معرفة هؤلاء الغرباء بالأسباب التى تقف خلف اختيار أهل طيبة لهذا النوع من الحياة المكتظ بخيالات وحرية لا تتحقق غالبا، خصوصا فى ظل مداهمات رجال الأمن من العاصمة الجمهورية لأوكارهم المظلمة والمختبئة فى أحراش مدينتهم العجيبة، أو خُطَب "المسكوت عن اسمه" الممتلئة بالحديث عن الإرهاب الذى سيأكل الأخضر واليابس – وهو مصطلح مفضل لديه - وتناسلهم الخرافي، ومدى تعبه وكده كل صباح فى سبيل إطعامهم جميعا وهى مسألة شبه مستحيلة لكنه يقوم بذلك بمساعدة من الإله الذى يبدو أنه فقد اهتمامه بهم.
آه.. ما بالى أذهب فى استطرادات لاطائل من ورائها، واعذروا ذاكرتى التى تشبه قطع "الفتة" الطيبية الشهيرة – هذه الأكلة الساخنة التى لايمكننى مقاومتها على الرغم من أنها غالبا ما تمتلئ بالخبز المقلى والأرز والصلصة الممزوجة بالثوم والخل والمرق المثقل بالدهن وقطع اللحم، والتى توضع فى طبقات فوق بعضها البعض فى شكل رمزى لقدرة أهل طيبة على البناء، كأنه شىء يجرى فى خلاياهم الوراثية، ناهيك عن رائحتها التى تتخلل كامل شعيرات أنفى الدموية فأقبل عليها إقبال المشتاق، وبعد أن أنتهى منها تخور مقاومتي، فأسقط فى نوم عميق أو أسترخى لخمول لايقاوم غير عابئ بالحياة نفسها، فيما تمثل لهم تلك الأكلة غاية المرام فى دفع شكماناتهم الذكورية إلى أقصى درجة من الاحتقان الذى لايمكن الفصل فيه إلا على أسرة غرف النوم كما يدعون( ).
على العموم حاولت العواصم الثلاث الأخرى الاستئثار بالاكتشاف، الذى يعود إلى القرن الثامن عشر حين كشف الضابط الفرنسى لشامبليون عن الحجر لكنه أخفى الجمجمة وأعطاها لامرأة طيبية كان قد تزوجها قبل أن يغادر قسرا إلى باريس، وبدورها أخفتها المرأة تحت سريرها أجيالا متعاقبة – هذا السرير الذى اختبأ تحته عشرات العشاق الفرنسيين مع الأرانب التى يتم تربيتها وتناسلها فى نفس المكان، سلو يمتد إلى آلاف السنين، هؤلاء العشاق الذين فضلوا البقاء فى طيبة على العودة إلى باريس- حتى آلت أخيرا إلى المتحف الفرعونى وبقى الأمر طى الكتمان لأسباب تتعلق بالأمن القومي، إلى أن كشف عنها العميل الإنجليزى اللعين، لكن العاصمة الفضية الوهمية نالت السبق فى النهاية بسبب هذا العميل، ظهر على الإنترنت ليعلن ذلك للعالم. هذا الصراع المضحك الخالى من الضغينة بين العواصم الثلاث لا يختلف كثيرا عن الصراع القديم بين أثينا واسبرطة، وهو ما يثبت أن نظريات هيجل حول جدلية التاريخ ودوراته الدرامية أمر لا يقبل الشك، وما أضافه فوكوياما إلى النظرية بعد ذلك من كبرياء الدولة، لكن كل ذلك سيكون محلا للنظر حتى نهاية تاريخ الحضارة الإنسانية الفعلي. مايثير ريبتى بالفعل هو أن هيجل لم ير عواصم أربع لدولة واحدة فى أى حضارة فى التاريخ، فلم يحدث ذلك أبدا إلا فى طيبة الحديثة، طيبة الشهيرة وعاصمتها الأشهر – اسما فقط – (قاف)( ) .
المهم ذكر على الجمجمة أمر هذه القطعة الكبيرة من البرونز والحديد التى تحاوطها الأسود الأربعة التى تم نحتها وأضيفت إليه طبقة من الدهان المطاطي، أما ماورد بشأن (قاف) على الجمجمة أيضا، أنها – أى قاف- من شدة الجور والظلم الذى سيقع فيها، ستستيقظ تلك الأسود ذات صباح لتفتك بالناس، سيفعل ذلك ثلاثة أسود منها فقط، أما الرابع فسيكون رمزا باقيا على الطغيان والفساد، وستظل تفعل ذلك وتكرره أبد الدهر، سيتوقف الزمن ولن تتوقف الأسود، سيكون نفس المكان، مشهد يتكرر كل صباح، حتى بعد أن يفنى الناس لن تفنى الأسود، سيعود المكان كما كان والزمان كما هو والناس كما هى وستقوم الأسود بنفس الفعل، كأنه عذاب مقيم. أليس ذلك مايحدث حين نكرر رؤية نفس المشهد بلذة غريبة على شريط فيديو أو سى دى مثلا أو على الإنترنت. لن تبقى الأسود فى طيبة ظالما ولا مظلوما، كما أن النهر الذى تستقيم فوقه قطعة البرونز سيجف وسيعود ليصب فى باطن الأرض وبالتحديد هناك فى قلب الأهرامات، وقد أشار إلى ذلك أيضًا ابن الأثير والطبرى فى تاريخ كل منهما ولكن بتلميحات يمكن تأويلها، إنها أسطورة قديمة تناقلتها أجيال من المؤرخين العظام.
وجدت هذه المعلومات على شبكة الإنترنت فى موقع العميل الإنجليزى الأريب، حين استطاع هذا الأخير رشوة أحد حراس المتحف وهو أمر سهل فى ظل تدنى رواتبهم وارتفاع قيمة الرشوة، حصل أخيرا على الجمجمة بشكل أو بآخر وهناك إشارة صغيرة قد تكون مدسوسة على النص بأنها عدة جماجم وليست جمجمة واحدة، وقيل أيضًا – وهذا مثبت على الإنترنت - أنه أى العميل رشا أيضًا المسئول الأول عن الآثار فى البلاد فى العاصمة الجمهورية، وقيل أيضًا بأنه قد يكون وزير الفنون نفسه فى العاصمة بعد ليلة صاخبة قضاها العميل مع الوزير فى قصره، بل وصل الأمر لأبعد من ذلك بكثير؛ حيث قيل بأن المسكوت عن اسمه هو نفسه الذى باعها للعميل الأريب!.
كل تلك المعلومات حصلت عليها أثناء بحثى المضنى على الشبكة عن تلك المرأة التى تركت قرينى الصغير يوما ما منذ عدة سنوات على أحد الأرصفة القريبة من هذه الأسود المعدنية، ولم يَعْثُر عليها منذ ذلك الحين.
أعود لكوبرى قصر النيل هذه القطعة المقدسة التى هبطت من السماء، يقال بأنها ستكون مسرحا لحوادث شتى فى تاريخ الجمهورية، كما كانت مسرحا لكثير من الحوادث فى العصر الملكي، وكما كانت ملجئا لمواطنى العاصمة السفلية التى غنى لها أحمد عدوية فى السبعينيات "السح الدح أمبو"، والتى يغنى لها الآن عماد بعرور "على ياعلى والحشيش"، غنوا لهؤلاء الذين لاينتمون للجمهورية ولا للملكية وإنما ينتمون لأنفسهم فقط، هؤلاء الذين يعيشون بعيدا فى العاصمة الثالثة المكونة من ألف واربعمائة وإثنين وستين 1462 منطقة عشوائية تحيط بقاف إحاطة حبل المشنقة بالرقبة، وسأطلق عليها إلى حين العاصمة "المجهولة"، من يعيشون فيها - كما سبق وأشرت- غير معنيين بما يحدث على الإطلاق فى العاصمة الجمهورية أو الملكية أو حتى عاصمة المعلومات، عاصمتى أنا – التى سأدعى زورا وبهتانا أنها العاصمة الرابعة التى لم تذكر فى تاريخ بعد - إنها عاصمة موجودة الآن فى كل دولة بالعالم، يعيش فيها بعض الناس من نوعيتى التى لم تصنف بعد بيولوجيا، يعيشون فيها بعيدا عن كل شىء، مفضلين التحول لكائنات أخرى، لا بشر ولا حيوانات، مجرد كائنات تتبادل الكلمات التى لايمكن تبادلها مع كائنات من لحم ودم، كائنات ليس لها علاقة بما يحدث على تلك الجثة المسماة الكرة الأرضية!.
لأغنى الآن لحنى الذى أعرفه..
سمر واين..
سمر واين!..
سمر واين.. زحمة ..
زحمة.. زحمة..
زحمة يادنيا زحمة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.