زين عبدالهادي مثقف مصري وأستاذ جامعي, درس المكتبات وتخصص في المعلوماتية, ثم عشق الرواية فأصدر فيها عدة تجارب رصينة, يعمل الآن رئيسا لدار الكتب المصرية. ويقدم كبري تجاربه السردية في رواية جديدة وإشكالية بعنوان أسد قصر النيل, إذ تربك قارئها بحجمها المتضخم ومادتها الفكرية وتقنياتها السردية, فقد انتهي من كتابتها كما ينص علي ذلك في خاتمتها في يناير2011, أي قبيل اشتعال الثورة بأيام, لكنها تحتوي من خمائر الانفجار ومظاهر العاصفة وتصريحات عشق الميدان ما يشير إلي بعض التدخل في صياغتها عقب هذا التاريخ, فيسمي الرئيس المخلوع المسكوت عن اسمه, فكأنه يخلعه في الرواية بأثر رجعي, ويفضح سيناريو التوريث بطريقة مباشرة, ويركز علي كوبري قصر النيل بعين شهدت دوره في الثورة وهي تحكي عما قبلها, لكن الرواية تطمح إلي ما هو أبعد من مجرد النبوءة, تريد أن تقدم رؤية راو فقد ذاكرته لمدة عشرين عاما عندما صدمته حبيبته في مقهي إيرافيتش القديم في ميدان التحرير بقولها إنها تتركه إذ حملت من غيره, فيهيم علي وجهه وقد فقد نصف أهليته ومعظم ذاكرته, حتي تقوم ثورة المعلوماتية بإعادة تأهيله وتدريب عقله, وهي إذ تعتمد علي تشظي الذاكرة, وانسياب السرد دون روابط سببية, ووفرة الأحاديث مع ندرة الأحداث فإنها ترتكز علي صناعة النماذج البشرية بمهارة لافتة, وتوشك أن تجعل واقع الثورة نموذجا اسطوريا بشعا يشوه طبيعة الناس ويحرم حياتهم من مظاهر الجمال والنبل, إذ استغرقوا في مباذل الشذوذ والإسفاف والغرائبية, كي يكون ذلك معادلا موضوعيا لتحلل بنية السرد ذاتها. الموسيقي واللامعقول: يرتكز القرار الدلالي للراوية علي إيقاع موسيقي مركب, يجدل أغنيتين شائعتين في الشرق والغرب منذ عقود, أولاهما تلك التي انفجرت علي لسان المطرب الشعبي في مصر وهو يصيح: زحمة يا دنيا زحمة وتاهو الحبايب/ زحمة مولد وصاحبه غايب أجي من هنا زحمة/ هنا أو هنا زحمة/ زحمة يا دنيا زحمة, وتزيد الرواية في تكرارها لهذه اللازمة الإيقاعية بشكل منتظم فتحكي لنا مصير هذا المطرب وكيف تم الانتقام من غوايته بأسلوب بشع يشي بفجر تحالف الثروة مع السلطة والفساد, أما الأغنية الغربية فتسمي سمر واين وتقول: الفراولة والكريز وقبلة ملاك في الربيع خمرتي الصيفية صنعت حقيقة من هذه الأشياء اخلع مهاميزك الفضية وشاطرني قضاء وقت ممتع وسأمنحك خمرا صيفية, أو.. أو.. سمر واين. ويحكي الراوي طريقة تعلقه بصوت المغنية التي تشدو بهذه الكلمات قائلا: كنت أفكر في اختيار لها وهي أغنية غربية, أو بالأحري لرعاة الفقر ونحن بالكاد نرعي أنفسنا.. ربما كان ينبغي أن أكتفي بأغنية زحمة يا دنيا زحمة لأحمد عدوية, للأسف لم يكن تعمد في اختيارها, إنها اللحظة القدرية بحكم انتمائي الانساني, كما أننا من جانب آخر نعرف الصيف جيدا, أقصي فصول العام علينا, ربما لأني خدعت بالفعل كما تحكي الأغنية, وربما لسبب غير مفهوم داخلي, عليكم أنت أن تكتشفوه بالبحث في كهوف الذات, ثم يستغرق الراوي في حكاية قصة فشله في تعلم العزف علي البيانو بالرغم من جهده الحثيث ودروسه المنتظمة, ويبقيمن كل ذلك صدي الألغام الموسيقية وهي تحاكي عبيئة الحياة, واستحالة التواصل, والحلم بخمرة العشق الصيفي ليغلف الراوي بغلالة رقيقة من الشعرية والجمال. أما الجانب اللامعقول في منطق هذه العقود المصرية الماضية فتعبر عنه حادثة رمزية طريفة تتراءي عدة مرات في النص منذ بدايته, وهي تتمثل في مشاهدة الراوي لرجل علي مشارف الخمسين من عمره, يرتدي معطفا أخضر اللون, ويحمل كلبا صغيرا أسود, ثم يضعه علي السور الحديدي لكوبري قصر النيل ويخاطب الكلب قائلا: بيض.. عايزك تبيض, لا أطلب منك أكثر من ذلك, ثم يأتي رجال البوليس, وتنتقل إليهم العدوي فيطلبون من بعض المساجين أن يبيضوا كذلك, ولا ندرك مدلول هذا الرمز سوي قرب نهاية الرواية حيث يستطرد الراوي كعادته المشتتة للانتباه ليؤصل للظاهرة بقوله: كانت العربة التي تقلنا, أنا وصديقي ذو المعطف الأخضر أو بالأخري نموذج الكاهن الفرعوني الذي يملك القدرة علي التحول لمساعدة الحكام الذين يأتي بهم الزمان.. إنه يساعدهم دائما في تحويل أحلامهم الواقعية في توريث الحكم إلي ابن من أبنائهم, هذه حقيقة الأمر, ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال تلك البيضة التي يجب أن تأتي لكي يأكلها الوريث, فإذا أكلها فإن القدرة علي استتباب الحكم لأسرته قرونا طويلة, هذا هو المكتوب في لوحنا المحفوظ, وتظل العجيبة الأسطورية ملفعة بالإبهام حتي يجلوها الراوي هكذا بعدما يربو علي ثلثمائة صفحة, الأمر الذي يترك المتلقي في حالة ضبابية من عدم الوعي بمدلول الإشارات المبثوثة أمامه, بينما تتدفق أمامه الاستطرادات والأحاديث التي تكشف عن خط دلالي جامع للعمل. بين التقنيات المختلفة: يمزج المؤلف في هذه الرواية المثيرة بين بعض التقنيات الرقمية ونظيرها السردي بطريقة تجريبية تستحق التأمل النقدي فهو يريد تجسيد الحالة المصرية كما يراها الراوي الذي يتبادل المواقع من المؤلف بجرأة غريبة, فهو مثلا يعتبر فقد الذاكرة من قبيل عمليات مسح البيانات التي يتعرض لها الجهاز العقلي للإنسان, ويتحدث عن ذلك بشيء من حس الدعابة الذي يتميز به المصريون إلي جانب خواص فيقول: رائع أن يفقد المرء ذاكرته لاعتراف سخيف من امرأة بأنها خائنة.. كانت قاف هل هي اختزال للقاهرة, أم لمصر كلها يتم اغتيالها علي مهل منذ نكسة1967 واستمر سقوط الضحايا منذ ذلك الحين, تذكرت أن المسكوت عن اسمه الثاني( أي السادات) قد قتل منذ سنوات, وأنه بعد عشر سنوات من موته تم اطلاق شبكة الإنترنت التي دخلتها ولم أخرج بعد ذلك.. اخرجني قرني( وهو سمسار انتخابات) من ذكرياتي الممسوحة التي أحاول إعادتها باستخدام هذا النوع من البرامج الذي يمكنه أن يعيد دائما الملفات المهملة داخل الحاسب ولم يكن هذا البرنامج سوي الكتابة الروائية, فقد قابل الراوي عم علي الشماع عامل النظافة في ميدان التحرير ووجده يكتب الشعر والقصص فمنحه الحل لإعادة شعلة مقدسة خافتة كما يقول إلي ذاكرته المتفحمة. وحكايته مع هذا العامل المثقف بالغة الطرافة في تجسيدها للإنسان المصري البسيط الذي لا تستغرقه المخدرات ولا الدروشة, بل يجد في الفن ملاذه في تشكيل الوعي الصحيح بالحياة, ويظل خيال الراوي قادرا علي ابتكار الصور المعادلة لطبيعة الحياة المصرية دون أن يذيبها في أحداث ووقائع تمثلها جماليا بشفافية كافية, فلديه مثلا فكرة عن تراكيب المجتمع المصري ماديا ومعنويا في طبقات تشبه طبقة الغذائي المفضل حيث يقول: دخلنا أحد محال الكشري لنعاود مشاهدة واحد من أهم اسرار أهل طيبة في البناء, نتلذذ دائما بمسألة الطبقات في الطعام( لم يذكر الرقاق والمحشي ولا الفتة أيضا) طبق الكشري الهرمي الشكل والمكون من عدة طبقات; الأرز والمكرونة ثم العدس أبوجبة وقطع البصل المقلي قبل الصلصة والشطة الحمراء السائلة, علي أن تركيبة النموذج المصري الحضارية ليست بهذا النمط التمثيلي المفرط في مباشرته, وإطلال المؤلف برأسه في الرواية يخرق سحابة التخيل الشفيفة لكنه لا يضعف احتشاد العمل بمادة فكرية غزيرة وطموح طليعي يجعل الرواية مثل جوف الفرا الذي يتسع لكل شيء في الحياة. المزيد من مقالات د. صلاح فضل