هل أنت مثلى أم أنك تملك قلباً آخر.. أتحدث إلى "المقيمين جبريا" فى "القاهرة".. العاصمة أو "بحرى" كما يحلو لنا "الجنوبيين" أن نقول.. أذكر أننى وكنت دون العاشرة انتظر كل صيف.. ينتهى موسم الدراسة.. ويقولون لنا: "عمتكم جميلة جاية من مصر".. وكنا نفرح.. ونفرح لأقصى درجات الفرح.. معها يأتى عمنا كمال وباقى الأسرة.. 10 أفراد كاملين يهبطون علينا فى قريتنا شمال سوهاج.. كان "كمال" يترك الزوجة والأبناء فى منزل بناه ويغادر إلى القاهرة والوصايا لا تتوقف، وأبرزها: "سيد ابنى ميروحش البحر" _ يقصد نهر النيل _ وتمر أيام الصيف سريعا.. وكنا نلعب ونلهو ونجرى ونجلس ساعات طويلة إلى جوار عمتنا انا وأبناء وبنات 5 أعمام و5 عمات _ العدد كبير جدا _ الوضع يستمر.. وكان بعضنا يذهب إلى البحر والحرص أن نموت جميعا ويعود "سيد" سالما.. كان لا يعرف "فن العوم" ولا يزال.. قبل أيام من بدء الدراسة.. يأتى عم كمال ويحدد: "خلاص هنسافر".. موجها حديثه لعمتى والأبناء.. كنا نشعر بالضيق.. وكنت أقول لنفسى: "بكره زى دلوقتى.. مش هيكونوا هنا".. ويأتى يوم السفر .. ونجتمع فى المنزل منذ الصباح.. وتأتى سيارة أجرة 11 راكبا.. ونضع الحقائب فوق شبكتها.. ويركبون.. ونهرول خلف السيارة و"دموعنا فى عيننا".. وكنت "اتشعبط" فى مؤخرة السيارة.. وأبكى وكأننى أقول لهم ارجعوا.. بلاش سفر.. لم يكن بكاء.. ولكنه أقرب ل"النحيب".. ويأتى الرد: "هنرجع فى الصيف".. وتقف السيارة معلنة أنه علىّ أن أنزل.. وأذهب بعدها مباشرة إلى "حديقتنا الكبيرة" والقريبة من المنزل.. وادخل إليها رغم خوفى المسبق.. فهنا يظهر "عفريت" أحيانا ويؤذى أى أحد.. كنت لا أبالى.. وأصعد فوق شجرة الجوافة.. كنت اختار الأخيرة فى الحديقة بعيدا عن المدخل وبعيدا عن "كرم العنب".. حتى لا يسمع أحد صوت بكائى والتفت حين يدخل الحديقة أى أحد.. كنت لا أتوقف عن البكاء .. وتأتى أمى وتقول: "طيب انزل".. وأنزل فى هدوء ولا أتحدث.. ونعود إلى البيت وأنام وأقوم وعيناى منتفختين.. يستمر الوضع هكذا طويلا.. أذهب إلى المنزل وأراه مغلقا .. وأتجول حوله.. وأحاول أن أمنع دموعى ولا أستطيع .. وتدور الأيام.. وتتوالى السنوات تباعا ونكبر.. وننهى دراستنا.. وأحضر إلى القاهرة.. وأعيش فيها بشكل نهائى .. الآن.. 11 عاما وأنا فى القاهرة.. وتعلمون أنها "ضيقة".. يمكنك أن تذهب لأى مكان وتعود.. وتتغلب على الزحام ب"المترو".. وتأخذنا الحياة.. وقسوة "يوم القاهرة" .. وعنفها ومرارتها وحلاوتها وزحامها وضجيجها وناسها الذين يتحولون إلى "آلة".. ماكينة.. تستيقظ.. وتدخل فى "المفرمة" وتعود "منهكة".. ويكون اليوم ضيقا.. خانقا .. قاتلا.. مرهقا.. مزعجا.. هل تصدقون أن "الطفل" الذى كان دون العاشرة ولا تتوقف دموعه حين تسافر عمته وأبنائها من الصعيد للقاهرة.. هل تصدقون أنه الآن فى القاهرة يرفع سماعة التليفون كل عيد ويقول ل"عمته": كل سنة وأنت طيبة.. والمكالمة لا تسغرق دقيقة.. وتسأله: مش هنشوفك .. ويرد: إن شاء الله.. هل تصدقون أن هذا الطفل الذى كان يزور البيت المغلق فى الصعيد ويبكى.. ها هو الآن.. لا يزور بيت عمته فى القاهرة.. رغم أن طريقه "محفوظا" فى ذاكرته مثل البيت الذى فى الصعيد تماما.. هل تصدقون أنه لا يذكر آخر مرة زار فيها عمته.. ليست عمتى فقط .. فزملائى فى الابتدائية.. ما زالوا فى الذاكرة.. ها هو ياسر سليم ونحن فى امتحان "الحساب" بالصف الثانى الابتدائى يبكى بشدة ليمنع مدرسا قريبا له من أن يغششه.. ليست عمتى فقط.. ولكنه محمد ممدوح أيضا.. زميلى والأقرب إلى فى مرحلة الجامعة.. وكنا لا نفترق.. والآن.. لا اتصال بيننا وبالكاد أرد على رسائل عبر المحمول ب"العافية".. ليست عمتى فقط.. ولكنه زميلى وائل عبد الحميد والذى التقيته فى صحيفة أسبوعية قبل 10 سنوات وكنا لا نفترق.. والآن أذكر آخر زيارة بيننا عندما تعرض لحادث وتحطمت قدماه تماما قبل 3 سنوات.. ليست عمتى فقط.. لكن العشرات من أصدقاء وأحباء وأقارب.. أخذتنى القاهرة بعيدا عنهم.. ألعن الآن هذه المدينة.. أكره شوارعها وطرقاتها ومبانيها.. لا أطيق العيش فيها.. حولت قلبى الذى كان يبكى إلى "قلب صناعى".. حولتنى إلى شخص أخر.. ألعن هذه المدينة آلاف المرات.. ألعنها أكثر عندما أغادرها إلى الجنوب.. هناك يعود "قلبى" وينبض من جديد.. لا أجد "قلبى الصناعى".. لا أعرف يختفى دون مقدمات.. هناك فى الصعيد أقبل "الكبار" من عائلتى.. أتفحص وجوههم جميعا.. كبروا.. أتفحص الوجوه من جديد وأدقق ولا أجد أمى.. ولا أجد أبى.. رحلا منذ سنوات.. رحلا وقلبى كان "طبيعيا".. وجودهما كان سيضمن أن قلبى سيقاوم "القاهرة".. وجودهما كان سيمنع تحول قلبى.. أحن الآن إلى الجنوب.. أحن إلى بيتنا.. وأقاربى.. أحن آلاف المرات إلى أمى وأبى.. أحن إلى "قلبى الطبيعى".. وألعن القاهرة.. ألعن القاهرة وقلبى.. "قلبى الصناعى".