بدايةً أحب أن أؤكد على أن هناك شباباً لهم حنكة الشيوخ، وذلك يأتيهم من الخبرة المجتمعية، ولكن هناك المندفعين، واندفاعهم يؤدى إلى خسائر لهم، قد يستطيعون تعويضها، لكن المشكلة لو خسروا وهم فى مراكز قيادية، فستكون خسارتهم مؤثرة على مرؤوسيهم، ولنا فى تاريخنا الحديث مثل صارخ على ذلك، وهو الرئيس عبد الناصر رحمه الله. فالرئيس ناصر فى بداية حكمه، افتقد للكثير من الحنكة والخبرة، فأتى بقرارات غير صائبة أدت لخسائر له ولشعبه، وللأسف بعدم خبرة رفض تداركها، وأصر على عناده، فزادت خسائرنا، ولكن للحق مع مرور الأيام وكثرة الأزمات تعلم الرجل، وصار ثقيلاً فى سياسته وقراراته، أى غير مندفع وراء أهوائه، ولنا مثل على ذلك أزمة أيلول الأسود التى اندلعت أحداثها فى الأردن، والتى كادت بسببها أن يقع صدام بين القوتين الأعظم حينها "أمريكا والاتحاد السوفيتى"، الأولى تدعم الملك حسين، خصوصاً بعد طلبه النجدة منها، والأخيرة تدعم سوريا التى دلفت بمدرعاتها لمساندة الفصائل الفلسطينية المشتبكة مع الجيش الأردنى، وكادت إسرائيل تتدخل فى صف الأردن غير أن حكمة وخبرة الرئيس ناصر جعلته يضغط على سوريا، لتنسحب من الأراضى الأردنية، ليفوت الفرصة على إسرائيل لتأخذ مكاسب أكثر، وليفوت الفرصة على أمريكا لسحق سوريا، وليمنع مواجهة بين القطبين على الأراضى العربية، من المؤكد حينها أن معظم ضحاياها سيكونون من العرب. بل استطاع أن يهدئ روع المتحمسين لقتل الملك حسين ويجعلهم يقبلون بأن يحضر للقاهرة لحضور واحد من أنجح مؤتمرات القمة العربية، ويصل بالطرفين الأردنى والفلسطينى لصيغة اتفاق، ويخرجون متراضين، بل ويخرج بمنظمة التحرير من قبرها الذى كادت أن تدفن فيه فى الأردن إلى العالمية، بأن يحصل على تفويض لها، بأن تتفاوض باسم الشعب الفلسطينى. أما لو كان ناصر على غير خبرته هذه التى رأيناها، ماذا كان سيفعل؟ من المؤكد كان سيعلن الحرب على الأردن، ويسحب قواته من خط المواجهة مع إسرائيل، ويلقى بها هناك ويضغط على سوريا، لأن تزيد من تواجدها العسكرى فى الأردن، وكان سيرسل إنذاراً لأمريكا بأنه سيعلن عليها الحرب ويلقيها فى البحر، ويطالب السوفيت بالتدخل "ويولعها حريقة" لتزداد خسائرنا حينها. نعم هذا كان أسلوب ناصر فى قيادة مصر قبل النكسة، غير أنه تغير بعد أن عركته الأيام. وأخيراً، اسمحوا لى بأن أؤكد أن ناصر لو كانت لديه هذه الخبرة من البداية، والتى لا ترتبط بسن، لما حل الأحزاب وحرمنا من طريق الديمقراطية الذى نتلمسه، لنعود إليه الآن وما فتح معتقلات مصر، لتأوى بداخلها كل التيارات السياسية بشتى توجهاتها لا لشىء إلا لأنها تعارض، وما كان ليأمم الصحافة، ليحرمنا من نور الحرية الذى نناضل لاستعادته، وما كنا قد دخلنا فى وحدات خاسرة وحروب دون استعداد وعداوات مع الكبار، أدت لانهيار اقتصادنا، وتراكم الديون التى نرزح تحتها لوقتنا هذا، ولم نكن لنحرم من دخل القناة والسياحة المفقودين، بسبب الحروب، وما كنا لنتعود العيش فى ظل الحاكم الزعيم الذى لا يخطئ، لأنه "مش معقول هو يغلط"! يا خسارة يا ناصر، أين كانت خبرتك حين تنكرت للرئيس نجيب بخبرته وعزلته ورفضت عودة العسكريين للثكنات، وحين حرمت الساسة من قيادة البلاد؟ كان عليك فقط أن تمنع الفاسدين من الترشح للمناصب العامة، وكنت بذلك قد كفيتنا شرهم، ولكن لا طائل من الندم، الأمل فى القادم، شريطة التعلم من الماضى وأخطائه.