يطلقون عليهم هناك "باندى جونتانامو"، إنهم العائدون من غياهب المعتقل الكائن بكوبا إلى ديارهم فى أفغانستان، لتصدمهم المفاجئة، فبيوتهم ليست أدفأ من جدران المعتقل. السلطات الأمريكية قررت الإفراج عن 100 من سجناء جوانتانامو على مدى ثلاثة عشر شهراً، تحت ضغوط دولية، ورغبة من الولاياتالمتحدة فى تخفيف حدة الدمار الذى لحق بصورتها أمام العالم. وبعد أكثر من خمس سنوات فى المعتقل يجاهد العائدون لبناء حياتهم من جديد، بينما لا تفارقهم مشاعر الغضب والانكسار، وتحاصرهم قسوة الفقر. معظم المفرج عنهم يؤكدون أنهم مظلومون، غير أن بعضهم لا يشعر بالندم لارتكابه أعمال عنف، ومنهم: محمد عمر لاعب الكرة السابق، والمعتقل العائد منذ عشرة أسابيع، حيث لا يشعر بالذنب حين يتذكر التدريبات التى تلقاها فى القاعدة، ولا لقائه بن لادن، ولا معركة تورا بورا التى خاضها عام 2001، وأدت إلى إلقاء القبض عليه، لكنه لا يستطيع إخفاء غضبه الشديد من رؤيته لسجانيه يجوبون شوارع بلاده بحرية "يقولون إنهم جاءوا إلى هنا لمساعدتنا، فلماذا إذاً يقتلون المدنيين، ولماذا لم يتمكنوا بعد 7 سنوات من الاحتلال من إمداد كابول بالكهرباء. قصص معتقلى جوانتانامو لا تخلو من مآسٍ عن إساءة معاملتهم فى المعتقل بدءاً من إغراقهم بالمياه للاعتراف، مروراً بالضرب وحرمانهم من النوم، وإجبارهم على البقاء فى أوضاع ضاغطة، ووصولاً إلى التعذيب المفرط لفترات طويلة. غير أنهم يؤكدون أن كل ذلك هين بالمقارنة بمراحل التعذيب التى مروا بها بعد عودتهم فى القواعد الأمريكية الواقعة فى جلال آباد، وقندهار، وفى قاعدة بإجرام الجوية التى تضم 500 وحدة اعتقال. وفى حين يصر المتحدث باسم الجيش الأمريكى فى أفغانستان على نفى إساءة معاملة المعتقلين، إلا أن ذلك لا يمنع عبد الناصر من القول بمزيد من الأسى "جوانتانامو كانت أفضل بكثير من المعتقلات هنا، فالطعام هناك كان جيدا، وكان هناك وقت للتمارين بدأت بعشرين دقيقة فى الأسبوع فى العام 2003 حتى وصلت إلى ساعتين يومياً"، لكن غصة لا تزال فى حلق عبد الناصر من تصرفات الجنود الأمريكان أثناء أداء المعتقلين للصلاة، "كانوا يتعمدون الحديث بأصوات مرتفعة ويتفوهون بعبارات نابية أثناء الصلاة". أغلب العائدين يتحدثون عن أوامر الحكومة الأفغانية وإدارة المعتقل لهم بعدم الحديث للصحفيين، لكن كبار المعتقلين من قادة الطالبان تتجاوز معاملتهم حدود التزام الصمت، فالملا عمر زاييف سفير الطالبان السابق فى باكستان على سبيل المثال لا يزال رهن الإقامة الجبرية فى منزله. ميبويز ياسينى المتحدث المفوض باسم البرلمان الأفغانى يبرر سبب التشدد فى معاملة العائدين من مكتبه فى مبنى البرلمان الجديد قائلاً "نخشى من انضمام العائدين لمتمردى طالبان الذين يسيطرون على مناطق واسعة جنوب وشرق البلاد، ولدينا بلا شك النية لإعادة دمجهم فى المجتمع، لكننا لن نعاملهم بطريقة خاصة"، ويختم كلامه قائلاً "إن العائدين يذكروننا بمأساة أفغانستان". أغلب العائدين يعانون من الظروف الحياتية الصعبة والعنف والفوضى التى واجهتهم بعد العودة، ومن بينهم عبد الناصر الذى قضى ست سنوات فى المعتقل ليعود بعدها إلى قريته التى فوجئ بأنها تغيرت كثيراً، إذ أضيف لها طريق جديد، فضلاً عن الكثير من عدم الأمان الجديد أيضاً "بتنا نخشى الذهاب إلى حقولنا فى المساء لأن الحلفاء يعتقدون أننا من الطالبان ويطلقون النار"، ويضيف أن الطالبان يطلقون النار أسبوعياً على شرطة القرية "لقد أحرقت المدرسة، وتعرضنا لهجوم بالقنابل" عبد الناصر كان قد اعتقل فى العام 2002 على يد القوات الأفغانية التى اتهمته بالضلوع فى هجوم على نقطة حدودية بالتعاون مجموعة باكستانية تنتمى للطالبان. وعلى الرغم من أن عبد الناصر نفى ضلوعه فى الأمر، إلا أن مصادر قانونية مقربة من القضية صرحت بأنه اعترف بارتكابه للهجوم، مؤكداً أنه تم التغرير به من قبل زميل فى مدرسته الدينية الواقعة فى المنطقة الحدودية مع باكستان. سعيد جان معتقل آخر لم يكف طوال فترة اعتقاله، وبعد إطلاق سراحه منذ عامين عن التساؤل عن سبب اعتقاله فى العام 2002، جان يحكى عن التعذيب الذى تعرض له فى سجن مقاطعة كونار وفى قاعدة بإجرام على يد الأمريكيين، غير أن ما رآه بعد عودته إلى قريته كان فوق احتماله "عدت لأكتشف أن زوجتى وأمى وابنى البالغ من العمر 12 عاماً قد لقوا حتفهم، فقلت لنفسى إن الحياة فى المعتقل كانت أفضل كثيراً، فأنا الآن لا أستطيع توفير الطعام لأولادى الأربعة الباقين" المحطة الثانية لمعتقلى جوانتانامو بعد إطلاق سراحهم من قبل السلطات الأمريكية، هى مراكز الاحتجاز الأفغانية قرب كابول والتى بنيت بأموال المعونة الأمريكية، حيث تتم محاكمتهم وفق القوانين الأفغانية، ويتم إطلاق سراح أغلبهم بعد منحهم خمس جنيهات إسترلينية وبعض الملابس. غير أن أغلب المطلق سراحهم يؤكدون أنهم وقعوا ضحايا عداوات قبلية لا علاقة لها بالحرب على الإرهاب. ولا يوجد ما يؤكد روايات العائدين إلا أن تفاصيل حكاياتهم تبدو مقنعة. فالقوات الأمريكية عشية حرب 2001 كانت تجند أفراداً لجمع معلومات عن المنتمين للقاعدة والطالبان من أهالى القرى والمقاطعات، والكثير من هؤلاء كانوا ينتهزون الفرصة للتخلص من أعدائهم بتقديمهم فريسة سهلة للأمريكيين الذين كانوا يقبلونها بترحاب ليسدوا عجز المعلومات. "حاج غاليب" عجوز من شرقى مقاطعة نانجاهار أطلق سراحه فى العام الماضى، وهو لا يكف مذ ذاك عن القول بإنه مظلوم وإنه وقع ضحية مؤامرة انتقامية، وهو يعود بذاكرته إلى الوراء عندما كان ضابطاً فى مركز شرطة قرب جلال آباد حين أقدم على إغلاق دكان لبيع المخدرات، مشيراً إلى أن هذا هو السبب الحقيقى وراء المؤامرة التى تعرض لها "لقد كانت تهمة باطلة، لكنها انطلت على الأمريكان. لقد ضربونى وعذبونى ومنعونى من الطعام وأغرقوا رأسى فى المياه لأعترف، على الرغم من أننى أخبرتهم أننى الشخص الخطأ". مصادر مستقلة أكدت صدق رواية غاليب خاصة وأنه كان فى السابق مقاتلاً ضد الروس ثم ضد الطالبان. "لقد أمضيت أربع سنوات فى جوانتانامو بدون أى دليل على ارتكابى لأى جرم، لكننى لست غاضباً من الأمريكان، لأنهم كانوا ضحايا المعلومات الخاطئة. أنا فقط أريد أموالى وعرباتى التى أخذوها منى، لأننى أمر بظروف شديدة الصعوبة، وخائف من هؤلاء الذين سلمونى للأمريكان لأنهم سيكررون ذلك مرة أخرى". وتشير السلطات الأمريكية إلى إطلاق سراح أكثر من خمسمائة معتقل، غير أن حوالى 70 من أصل 263 لا يزالون رهن الاعتقال وهم قادة القاعدة، أما الباقين ففى قاعدة بارجرام التى شهدت مقتل اثنين جراء تعرضهم للتعذيب أثناء التحقيقات. العودة لا تضمن للعائدين سوى المزيد من البؤس والشقاء، سعيد عمير واحد من العائدين الذين ألقى القبض عليه عام 2001 بعد العثور على متفجرات فى منزله الكائن شرقى مقاطعة نانجاهار، لكن عمير أنكر معرفته بأى معلومات عنها واتهم أحد أقاربه بتدبير مؤامرة ضده "لقد أخبرت الأمريكان أننى قاتلت ضد الطالبان إلا أنهم أبقونى فى المعتقل لمدة خمس سنوات. لقد أخذونى لقاعدتهم وضربونى حتى فقدت الوعى وأرغمونى على البقاء دون نوم لأيام وأيام، ثم بعد ذلك أخذونى إلى جوانتانامو التى بقيت فيها لمدة أربعة سنوات"، عمير يعمل الآن راعياً للغنم، بينما لا يستطيع توفير اللحم لنفسه وأسرته "أنا مسئول عن أسرة مكونة من ثلاثين فرداً، والكيلو الواحد من اللحم الأحمر يبلغ جنيهين إسترلينيين، فكيف يمكننى توفيره". أما محمد عمر فأقصى ما يطمح إليه حالياً هو الانضمام لأسرته بالعربية السعودية التى نشأ فيها، والتى قدم منها فى العام 2001 لينضم لكتائب المجاهدين. عمر يؤكد أنه نبذ العنف ويأمل فى الزواج وإنجاب أطفال وتكوين أسرة، غير أنه لا يستطيع إخفاء غضبه "أسامة بن لادن هو الشخص الوحيد المهتم بمأساة العالم الإسلامى. أما الحكومة الحالية فليست سوى شريكة فى تحالف غير إسلامى مع الغرب. ولا أحد هنا يحب الأمريكان الذين قتلوا المئات من المدنيين دون ذنب"، ويضيف عمر بأسى "ما نعيش فيه الآن هو مزيج من الفوضى والعنف و الاستبداد، وهذه الأمور كفيلة بتحويل أى شخص عادى إلى قنبلة موقوتة. ولك أن تتخيل شعور شخص عانى كل هذه السنوات فى المعتقل".