مصافحات حميمة وأحضان دافئة لونت الصفحات الرئيسية لكافة وسائل الإعلام العالمى خلال تغطية الزيارة التاريخية للزعيم الكورى الشمالى كيم أون لنظيره الجنوبى. لفهم الحاضر والتنبؤ المناسب للمستقبل لابد من إلقاء الضوء على الماضى أولاً، فالأمة الكورية لم تعرف التقسيم قط إلا مع تنامى الامبريالية اليابانية التى توٍجت بهزيمة روسيا خلال الحرب الروسية – اليابانية 1904-1905 وكانت أول حرب تُهزَم بها أمة أوروبية على يد أمة غير أوروبية على الإطلاق. تلى ذلك غزو اليابان كلاً من كوريا ومنشوريا للسيطرة على مناجم الحديد والفحم فجر الحرب العالمية الثانية مع دك قوات موسولينى هضبة الحبشة وضم هتلر النمسا ثم زحفه الجارف على بولندا ثم اجتياح يابانى على شرق وجنوب شرق أسيا قاد إلى الاصطدام بالأسطول الأمريكى المرابط فى بيرل هاربر وكانت تلك شرارة الحرب العالمية الثانية بإعلان الولاياتالمتحدة الحرب ضد اليابان بعد أن كانت حرباً اقليمية داخل أوروبا وأسيا فقط. ومع هزيمة اليابان بضربتين نوويتين، زحف السوفييت نحو الأراضى الشمالية الملاصقة جغرافيا لأراضيهم فى شبة جزيرة كوريا وزحف الأمريكيون نحو الجزء الجنوبى لتحريرهما من الاحتلال اليابانى، وخيم كلاهما فى الجزء الذى سيطروا عليه ورفضوا الانسحاب حتى انطلاق الحرب الباردة بينهما بسبب أزمة اليونان عام 1946 ثم وقع الكوريون بين فكى الحرب الباردة لتندلع الحرب الكورية الطاحنة عام 1950 لتنتهى بترسيم رسمى للحدود السياسية الدولية بينهما. عاصمتان وحكومتان ورئيسان وعملتان وعلمان مختلفان لشعب واحد، هكذا عاشت الأسر الكورية المقسمة لأكثر من نصف قرن لتتحمل تكلفة الحرب العالمية الثانية الثقيلة. ثم جاءت التسعينيات لتحمل تصعيداً من بيونج يانج ضد الغرب وخاصة أمريكا لاتهامهم بإذلال الشعب الكورى ونهب ثرواته واغتصاب مقدراته لأكثر من قرن، وبرعاية صينية-روسية دشنت بيونج يانج برنامجاً نووياً حربياً طموحاً كمحاولة من حلفائها لخلق ورقة ضغط على الغرب. تجارب صاروخية انتهكت المجال الجوى للجار اليابانى والكورى الجنوبى لأكثر من عقدين، وصور التقطتها الأقمار الصناعية للمخابرات الأمريكية لمنشآت نووية بكوريا الشمالية يشتبه بأنها لتصنيع سلاح نووي، وتصريحات من كيم أون تهدد بضرب الساحل الغربى للولايات المتحدة أحياناً وقواعدها العسكرية فى سيول أحياناً، وجزيرة جوام الأمريكية بغرب الهادئ أحياناً أخرى. وفى هذا السياق لابد من التأكيد على أن قيام دولة ما بتجربة انفجار نووى بكمية يورانيوم مخصب أقل مما تُستَعمل بالقنبلة نفسها يعد برهان أساسى لقدرتها على امتلاك هذا السلاح، لكن بيونج يانج لم تقم بأى تجارب انشطار نووى على الإطلاق، وهو ما يشكك فى قدرتها على إنتاجه أصلاً خاصة مع التخلف الاقتصادى والعلمى الشديد لشعبها الذى يستورد أكثر من 90% من الغذاء والنفط من الصين وحدها، ولا أنسى اختراق قواعد البيانات السرية لشركة سونى عام 2014 حينما حمل تسريب للفيلم المشهور (إنترفيو)، والذى صور هذا البلد كمارداً كرتونياً. وأخيرًا يزور الزعيم الشمالى نظيره الجنوبى ويتفقان على إنهاء الحرب غير المعلنة بين الكوريتين، ونزع السلاح النووى لشبه الجزيرة الكورية، بل بالغت بعض وسائل الإعلام فى وصف الحدث بأنه بداية لوحدة الكوريتين. والجدير بالذكر أن إنهاء الحرب قد يعنى توقف تصريحات بيونج يانج المستفزة والمهددة بصواريخها العابرة للقارات فحسب، وقد لا يشمل بالضرورة نزع السلاح النووى أو تحقيق الوحدة التى تتطلب نظام دولى أقل صداماً بين بكينوموسكو وواشنطون. لقاء غاب عنه الساسة الصينيين والروس وهم الأشد تأثيراً على كيم أون، وهو ما يزيد غموض زيارته وتصريحاته وخاصة ما يتعلق بنزع السلاح النووى! أخذين بالاعتبار الإدارة الشمولية لكوريا الشمالية مع غياب المؤسسات والمسائلة، بل وتوقف أغلب القرارات المصيرية على شخص كيم أون المُمجد والمتقلب دائماً. لماذا غير كيم أون موقفه فجأة لينصاع لمطالب الغرب والرضوخ، ولماذا جاء هذا التغيير فجأة دون أى تمهيد سابق، ولماذا فعلها كيم فى هذا التوقيت تحديداً؟ ولماذا لم يعلق حلفائه فى موسكووبكين على هذه الخطوة سواء بالرفض أو الترحيب! وهل هذه الخطوة مرتبطة بخطاب ماكرون أمام الكونجرس منذ ساعات الذى كرر كلمة "إيران" أكثر من ثلاث مرات مؤكداً على أنها لن تمتلك هذا السلاح "أبداً"!. أسئلة هامة تفتح المجال أمام البحث فى كواليس الخطوة، فالجدير بالذكر أن التغيرات الجذرية والمفاجأة فى محطات السياسة الدولية تحمل دائماً أمراً غامضاً وجوهراً مناقضاً لظاهرها طالما تضاربت تبريراتها، ولنتأكد أن الفترة القادمة ستحمل مفاتيح هذا اللغز. حلول السلام فى شبه الجزيرة الكورية سيخدم بلا شك نمو الاقتصاديات المجاورة ولكن لا أراها أكثر ثماراً إذا ما قورنت بالتذبذب الأمنى الحالى الذى طالما وظفته موسكووبكين للضغط على الولاياتالمتحدة لتحقيق مكاسب إقليمية ودولية فى جزر بحر جنوبالصين المتنازع عليها وقضية تايوان وكذا الحرب السورية والأوكرانية. هل يفعلها كيم ويوحد الكوريتين؟ وإذا فعلها.. أيهما سيكون الفائز، الجنوب الرأسمالى الديمقراطى أم الشمال الشيوعى الاشتراكى!!