تزايدت الأحاديث عن عودة الشرطة إلى شوارع مصر، ومازالت المحاولات مستمرة لمحو الثارات بين هذا الجهاز وبين الشعب، وإذا أردنا أن نقوِّم تلك العلاقة من أجل أن تستمر فعليا وبصورة جيدة، فعلينا أن نغير طريقة الكلام القديمة التى لم تكن تلقى أى قبول لدى الناس، كما يجب أن نشرح ماهية تلك العلاقة، كما كانت، وما يجب أن تكون. الشرطة كانت فى الماضى البعيد جهازا فى خدمة الشعب، ولكنها فى مصر ومع عفونة النظام الساقط، الذى طال كثيرا حتى أفسد كل شىء، فسد الجهاز، فأصبح يرى أن الشعب معتقل لديه، وان الشرطة هى سيدة الدولة والحاكمة بأمر الشيطان، وما الشعب إلا عبيد إحساناتهم، على الرغم أن الشعب كان يدفع لهم رواتبهم، إلا أن طريقة التعامل كانت "حسنة وأنا سيدك" كما يقول المثل الشعبى. فالشرطة فى مصر المحروسة كانت عبارة عن إقطاعية يملكها مجموعة من البشوات الفاسدين، فلا يجرؤ مواطن كبر أو صغر أن ينادى ضابطا دون لقب باشا، على الرغم أن هذا المواطن يعلم تماما أن هذا الضابط يركب التاكسيات دون أن يدفع لسائقيها، ويشترى ما يريد بالسعر الذى يريد حتى لو بربع قيمته الحقيقية، ويقبل الهدايا مقابل تجاوزات للقانون، والكثير من صنوف الفساد والإفساد، كما كان كل الشعب المصرى يعلم علم اليقين أن هذا الضابط لم يقبل أصلا فى كلية الشرطة إلا بواسطة أو برشوة. تلك هى حقيقة الحالة الإذعانية التى كان يعيشها الشعب المصرى فى ظل نظام معلوم فساده بالضرورة، وكان أيضا رموز هذا الفساد يحملون ألقابا أخرى غير باشا الشرطة ، بل أكثر علو وغلو، مثل معالى الوزير وسيادة الرئيس وغيرها من الألقاب التى لا يستحقها أصحابها، لأنهم جميعا وببساطة مجرد فاسدين. فإذا كان عقلاء القوم يريدون الآن خلق علاقة سلمية بين الشعب والشرطة، بدون تربص الأطراف ببعضها، وبدون تحين عناصر الشرطة والأمن لأقرب فرصة ليعيدوا سطوتهم على الشعب، وبدون أن ينتفض الشعب فى وجههم مرة أخرى ليحرق معاقلهم، ويطارد فلولهم، وبدون أيضا أن نساوى بين قاتل ومقتول، لأن بعض الأصوات ساوت بينهم واعتبرت الطرفين شهداء، رغم أن كل قوانين الأرض لا يمكن أن تعتبر من يحمل سلاحا ويقتل شابا أعزل يطالب بحقه، هو فى نفس خندق هذا الشاب الذى دافع عن نفسه بيد فارغة، ولكن بغضب جارف. أتمنى من عقلاء القوم، ألا يعودوا إلى نفس الكليشيهات المكرورة والجوفاء، مثل أن رجال الشرطة هم اخويا وأبويا وابن جوز عمتي، ظنا منهم ان تلك الكلمات ترطب أو تهدئ، لأن العلاقة ببساطة لا يمكن أن تسير بذاك الأسلوب، فالشرطى او رجل الأمن ضابطا كان أو جنديا هو مجرد موظف يؤدى عملا محددا ويتقاضى راتبه فى مقابل هذا العمل، ولا يفعل ذلك بطولة ولا تضحية ولا فداء كما كانت تشيع بعض أبواق السلطة البوليسية التى حكمت مصر عقودا طويلة. فإذا كان عقلاء القوم يريدون خير هذا الوطن، فى الحاضر والمستقبل، فعلى الجميع أن يضع الأطر الحقيقة والقانونية التى توضح تلك العلاقة بين الشعب وبين منسوبى وزارة الداخلية، حتى يمكن للجميع أن يعيشوا سلاما حقيقيا فى وطن واحد يساوى بين أبنائه. فلا فضل لطرف على آخر، ولا فداء لشخص سعى لعمل ويتقاضى مقابله. فالطرفان مواطنان متساويان، يحكمها القانون، ويفصل بينهما القانون، ويحدد العلاقة بينهما القانون. فقد سقطت دولة البشوات فى 25 يناير، وإذا أراد هذا الشعب الخير لمستقبل هذا الوطن، فيجب على الجميع أن يتخلوا عن هذا اللقب القميء، فلكل ضابط رتبة ينادى بها، ولكل مواطن هوية تحدد من هو، وللطرفين دستور يساوى بين الناس، وقانون يحكم علاقاتهم. هكذا تكون الدولة، أو نكون قد فرطنا ليس فقط فى أرواح الشهداء وفى كرامتنا.. بل نكون قد فرطنا فى الوطن ليضيع هذه المرة وللأبد.