الصدفة وحدها قادتنى إلى إقليم دارفور. الآن فقط عرفْتُ قيمة المغامرة بالنسبة لعمل الصحفى، وأهمية أن يلتقط أى فرصة للقفز إلى المناطق المشتعلة وساحات المعارك وميادين القتال فى أى مكان من العالم. القصة ترجع إلى صيف 2004، بعد عام واحد من انفجار الأوضاع فى دارفور، وبدء أول جولة للتمرد المسلح، قام بها أبناء القبائل الرئيسية فى الإقليم، الذين قرروا حمل السلاح فى وجه السلطة المركزية احتجاجًا على استمرار تهميشهم وعدم الاستجابة لمطالبهم بتزويد دارفور بالخدمات الأساسية (طرق، كهرباء، مستشفيات، مدارس، جامعات، وظائف..) للتذكرة فإن الشرارة الأولى للأحداث انطلقت فى مارس 2003 ، عندما هجم المتمردون على مطار مدينة "الفاشر" (العاصمة السياسية للإقليم)، وأحرقوا طائرة ركاب كانت رابضة على أرضه، ثم احتجزوا قائدًا عسكريًا كبيرًا، ولم يتمّ الإفراج عنه إلا بعد أيام من المفاوضات والمساومات. فى أعقاب هذا الحادث اشتعلت نار الفتنة فى الإقليم، فحصدت أرواح آلاف الأبرياء، كما وصلت النار إلى العاصمة (الخرطوم) حتى طالت شخص الرئيس السودانى عمر البشير نفسه. قبل أن أتطرق لتفاصيل الرحلة التى سجلتها بين دفتى كتاب بسيط، يحمل عنوان "دارفور أرض السحرة والقرآن"، فإن للكتاب نفسه قصة، إذ ذهبت إلى دارفور، ليس بصفتى الصحفية، بل كنت مرافقًا لصديقين يُعدان فِيلْمًا تسجيليًّا عن "خلاوى" تحفيظ القرآن المنتشرة بكثافة فى الإقليم. دورى فى الرحلة كان يتوقف عند كتابة "سكربت" الفِيلْم التسجيلى. على مدار شهر كامل تنقلنا بين ولايات الإقليم الرئيسة الثلاث )الفاشر شمالاً، نيالا جنوبًا، الجنينة غربًا). الرحلة أتاحت لنا فرصة الاقتراب من حياة الناس، فاندمجنا معهم متنقلين بين المدن والقرى التى احترق بعضها،بينما البعض الآخر اختفى من الوجود. بعد عودتى إلى مصر شعرت بأعراض مرضية غريبة (هبوط فى الأعصاب، وتوتر فى المزاج، وضعف كلى مع فقدان تام للشهية). كنت قلقًا من الإصابة بمرض الملاريا المنتشر بكثافة فى السودان، خاصة فى تلك الفترة من العام التى كنت فيها هناك. مخاوفى تضاعفت، لأنى تمردت على تعليمات هيئة الحجر الصحى بمطار القاهرة، ولم أتعاط أى مضادات تلزم بها المسافرين والعائدين من الدول الأفريقية. اصطحبنى صديق إلى مستشفى الحميات، بعد أن ودعت أولادى، إدراكًا منى بأنى مصاب بمرض مميت، فقد كنت أعانى من نفس الأعراض التى حكوا لى عنها فى السودان. فى مستشفى الحميات بإمبابة استسلمت أمام مديرها، ورويت له شكوكى فى الإصابة إما بالملاريا وإما الفاشيولا. دخل الرجل فى نوبة من الضحك الهستيرى، وسألنى عن موعد عودتى، أجبْته "قبل عشرة أيام قضيتها فى معاناة شديدة"، فرد بسرعة: من يصاب بمثل هذه الأمراض، ولم يتلق العلاج فورًا، تتدهور حالته سريعًا ثم يموت خلال أيام معدودة. فَحَصَنِى بدقّة، ثم أعطانى بعض المقويات. عرفت فيما بعد أن مرضى كان مجرد توابع نفسية لما شاهدته فى الإقليم من الموت جوعًا لآلاف الأطفال والنساء والشيوخ، الذين دفعوا وما زالوا يدفعون حياتهم ثمنًا لاستمرار الصراع بين الحكومة والمتمردين. رأيت من الضرورى أن أروى تلك التفاصيل، لأنها مكملة لما يجرى فى الإقليم الذى ذهبت إليه، وأنا أحمل عشرات من علامات الاستفهام حول الأسباب الحقيقية التى دفعت أبناء الإقليم إلى التمرد وإشهار السلاح فى وجه السلطة، السبب فى ذلك العجز المعلوماتى، هو قصور الإعلام العربى، سواء بقصد أم بدون قصد، المهم أنّنى - كصحفى- لم يكن لدى الخلفياتُ الكافية لإمكانية معرفة أبعاد الأزمة بشكل متوازن. فى المقابل فإن وسائل الإعلام الغربية أبدت -منذ الوهلة الأولى- اهتمامًا بالغًا بالأحداث كعادتها فى مثل هذه القضايا الساخنة. ووصل إلى دارفور عشرات المراسلين والصحفيين الأجانب، سواء عبر السودان أم الدول المحيطة بها، لنقل ما يجرى على أرضها للرأى العام العالمى، بينما الإعلام المصرى والعربى لم يسعَ ولو لتقليد الإعلام الغربى، رغم أن ساحةَ القضية الرئيسية بلد عربى عزيز علينا جميعًا، وهو السودان. 24 ساعة قضيناها فى الخرطوم، كانت - بالنسبة لى - عبئا ثقيلاً، نظرًا لتعطّشى للوصول إلى دارفور فى أسرع وقت، ولأن المحيطين بنا كانوا يتجنبون الحديث عما يجرى فى دارفور، والاستخفاف بأحداثها لدرجة أن أحدهم قال لى: "لو كنتَ ترغب فى السفر إلى هناك من أجل هذا الموضوع بالذات، فلا ترهق نفسك، لأن المشكلة فى طريقها للحل، وربما تنتهى قبل وصولك إليها". رن جرس التليفون. المتحدث على الطرف الآخر، قال لى بلهجة سودانية سريعة: استعدّ للسفر إلى دارفور باكرًا... وللحديث بقية