أفنى الاقتصاديون أعمارهم بغية البحث عن حل لمشكلة أزلية اتصل شطرها بندرة الموارد، واتصل الشطر الآخر بتعدد الحاجات. ولمّا كانت الندرة فى بعض خصائصها قابلة للقياس التقدير، فقد التقمها روّاد علم الاقتصاد واتبعهم التلاميذ، وأشفق أولئك وهؤلاء من كل ما اتصل بسبب الحاجات البشرية المتعددة. يقول أمثلهم طريقة هى متغيّر خارجى، يختص بالبحث فيه علماء النفس والأدب والأخلاق. فالحاجات البشرية إذن لا سقف لها تتحرك فى اتجاه صاعد لا شأن للاقتصاديين بكبحه. فتلك غريزة وضع قانونها قبل نشأة العلوم. وكم أشقى الاقتصاديون الناس بتلك الفرضية التى أسقطوا بها شطر المعادلة المصوّرة للمشكلة الاقتصادية: ندرة موارد + تعدد حاجات = مشكلة علم الاقتصاد، وكم أشقى الاقتصاديون أنفسهم بذات الفرضية، فقد أرهقوا عقولهم بالبحث عن أسباب التغلب على ندرة الموارد وأطلقوا للحاجات أعنة تتحكم فيها الشهوات، بل ويخلقها المنتجون خلقاً بعرضهم للسلع والخدمات كما ذهب "ساى" فى قانونه الشهير. وإذ سخر "كينز" واتباعه من قانون "ساى" القائل بأن العرض يخلق الطلب عليه، وتعاملوا معه بسطحية، فقد فنّد الكلاسيكيون الجدد هذا النقد فيما بعد، ولكن وبغض الطرف عن هذا الجدل العلمى الطويل، ألسنا كلنا نسير وفق هذا القانون المعيب؟ ألم تتضاعف احتياجاتنا من السلع والخدمات، وتتلوّن وتتنوّع مع تطوّر العرض شكلاً ونوعاً وتسويقاً وترويجاً ونقلاً؟ انظر إلى ما كان يستهلكه والدك وقارنه بما تمتلك وبما تطمح فى تملّكه من أسباب!. بل انظر إلى نفسك منذ عقد أو عقدين من الزمان، وقارن بين حاجاتك آنذاك وحاجاتك الآن. إنها غريزة بشرية كما ذهبوا، ولكن النظم الاقتصادية التى قامت منذ القدم، لم تدع تلك الغريزة وشأنها كما ظن أو ادعى الاقتصاديون، بل لقد أغرت تلك النظم بذلك الشطر من المعادلة (تعدد الحاجات)، لتعميق الفجوة بين الحاجات والموارد بغية تحقيق مكاسب إضافية. فأخذت تعمل على تحفيز الحاجات واستثارتها باستمرار حتى يزداد الطلب، وترتفع الأثمان، وتتحقق الأرباح الاستثنائية للقلة المستفيدة. صحيح أن العديد من النظريات الاقتصادية قد لاقى رواجاً وتأييداً عند ظهوره، ذلك لأن تلك النظريات جاءت لتربأ صدعاً أحدثه تطبيق نظرية سابقة. فلولا توحّش الثورة الصناعية وما صاحبها من فوائض إنتاجية لما وقع الكساد الكبير، ولما اكتسب "كينز" شهرته فى محاربة هذا الإخفاق للنظام الرأسمالى الكلاسيكى، بإضفاء تعديل بسيط يقضى على البطالة بمزيد من الإنفاق وإن كان فى غير موضعه. وهكذا عملت مضاعفات "كينز" على منح النظام الرأسمالى فرصة أخرى للحياة والاستمرار، فقبله الجمهور على ما فيه من تقلبات ودورات اقتصادية هى من خصائصه اللازمة، ولكن سرعة التدفق المعلوماتى التى نشهدها خلال العقدين الأخيرين، أظهرت سوءات النظام الرأسمالى كما لم تظهر من قبل. فتسارعت وتيرة الدورات وازدادت حدة التقلبات حتى تنبأ البعض بانهيار وشيك للنظام الاقتصادى العالمى. وفى عين تلك العاصفة التى باتت تطيح بالبلدان وتسقط البورصات هنا وهناك، يبزغ نور حكمة رائعة، بل هى نظرية مكتملة لو أننا تعاملنا معها على هذا النحو. فمنذ ما يقرب من ألف وأربعمائة عام قال رجل من المسلمين عبارة خالدة: "القناعة كنز لا يفنى" فأى عبقرية تلك التى ألهمت هذا الرجل أن يتناول المشكلة الاقتصادية من حيث أهملها الآخرون؟ هو لم يدع إلى القناعة فى عبارات جزلة بسيطة كتلك التى يخاطب بها الزهّاد والنسّاك. ولكنه استخدم كلمات من وحى مشكلة الندرة، تشفّ عن إدراك لأهمية النقود، وتحدّث الغريزة البشرية الشرهة إلى المال بما تفهمه وتشتهيه. فكيف ذلك؟ الناس فى مساعيهم يلتمسون السعادة والرضا بطرق شتى، فمنهم من يبلغ غايته، وأكثرهم أعيته الحيل فلم يسعد ولم يدرك نعمة الرضا. فالأمام على بن أبى طالب كرّم الله وجهه، حينما أطلق هذه النظرية من عقالها إنما أسس لعلم جديد تتصل فيه المادة بالمعنى، والجسد بالروح. فأيما إنسان يقنع بما لديه من أسباب العيش، فذلك هو الغنى الذى لا تفجعه الندرة ولا تفنى كنوزه مهما تقدّم به الزمن. فالملياردير الذى يكدّس الأموال ولم يزل يشعر بحاجة إلى مليار جديد ليبلغ به رقماً قياسياً مثلاً، هو رجل فقير، يفتقر إلى قدر كبير من الأموال حتى يبلغ سقف حاجاته، وما هو ببالغه لأنه قد ركب صهوة شهواته وغرائزه وأخذت تهوى به إلى حيث يريد منه الباعة والصيارفة. أما الرجل رقيق الحال إذا ما قنع بما لديه من أسباب العيش الكريم أوهو قد رسم لحاجاته سقفاً يلزم لبلوغه بضعة آلاف من الجنيهات، هو رجل أغنى بلا شك. وطالما أنه يعمل ويكد فكل ما أتاه فوق سقف حاجاته -وإن قل- فهو كنز لا تفنى خزائنه ولا تجف منابعه، وقد كان لضبط الحاجات أثر بالغ فى بلوغ هذا السقف، فالموارد كما نعلم جميعاً محدودة ناضبة، وحتى الموارد المتجددة تعوزها أموال طائلة -نادرة أيضاً- ليحسن استغلالها. أما الحاجات فهى شىء رهن قبضتنا نسوسه ونروضه كما نشاء. لست هنا إماماً يدعو إلى الزهد والتقشف وشظف العيش، فبين أظهرنا أناس لا يملكون رفاهة القناعة، إذ هم لم يشبعوا حاجاتهم الأساسية من الغذاء والكساء فى أدنى مراتبها. بل أحسب أن من بيننا من لا ينعم بما تلقاه بعض الدواب من رعاية وعناية. وختاماً فلم أكن لأضع النظرية الرأسمالية محل اتهام، لأوثر عليها الاشتراكية أو سواها من نظريات اقتصادية أثبت الواقع فشلها تباعاً. وإن أطمع إلا فى تأمل ودراسة تلك النظرية العلوية البديعة التى قوامها كلمات بسيطة: "القناعة كنز لا يفنى".