بداية فأنا من أشد المؤيدين لفكرة ترك أخوتنا الأقباط يحتكمون لشريعتهم فى أمور الزواج والمواريث، وما نصت عليه شريعتهم فى الأمور الاجتماعية، ولكن هذا لا يعنى أبداً أن يخرج البابا شنودة معلنا أنه لن يسمح بتطبيق القانون لأن الأقباط هم أول من طالبوا بالمواطنة، وهى فى رأيى تعنى الانصياع لحكم القانون دون تفريق أو تمييز دينى أو عرقى أو فكرى. المعارضة الشديدة والتصلب فى الرأى جعل من البابا شنودة والكنيسة تبدو وكأنها تأخذ موقفاً سياسياً، وهو ما ينتقص من قيمة الكنيسة كمرجعية دينية ويجعل منها فصيلاً سياسياً معارضاً حينا ومؤيداً حينا آخر. وحتى لا يغضب أخوتى الأقباط، فإن هناك مؤشرات كثيرة على أن الكنيسة ترغب فى ممارسة دور سياسى بل إنها تمارسه فعليا، ومن ذلك مثلا الضغط لترشيح وتعيين نواب أقباط فى المجالس التشريعية، وهو ضغط عادة ما يؤتى أكله ولكنه لا يساعد على اندماج وانخراط الأقباط كمصريين لهم كامل الحقوق فى الحياة السياسية، بل يجعل منهم طائفة دينية لا تنال حقها إلا بتدخل الكنيسة وعلى رأسها البابا نفسه. ولو تابعنا زيارات أحمد عز والدكتور مفيد شهاب والدكتور زكريا عزمى ولقاءاتهم مع البابا لأدركنا أن الأمر كله يتعلق بدور أوسع للكنسية فى الحياة السياسية، وليس مجرد الدفاع عن الشريعة المسيحية وحمايتها والاحتكام إليها. ولو تابعنا ما صرح به البابا شنودة مؤخرا ونشرت "المصرى اليوم" مقتطفات منه وخصوصا قوله "حكم الإدارية العليا لن يُنفذ، لأن هذا الأمر دينى"، لا علاقة لأى جهة غير دينية به.. فإننا أمام كلام واضح وصريح بأن البابا يتبنى موقفاً سياسياً قائماً على مبدأ "اللا مواطنة"، وهو اختيار يمكن الاتفاق معه أو الاختلاف عليه فى ضوء اتفاق مجتمعى على فكرة "فليحكم أهل الإنجيل بما أنزل إليهم"، وهو أمر منصوص عليه فى القرآن الكريم وهو يعصم أخوتنا المسيحيين من أى تغوّل أو جور على عقيدتهم، والمشكلة أن أخوتنا المسيحيين يرفضون المادة الثانية من الدستور بحجة أنها "مضادة للمواطنة"، مع أنها المادة التى قد تمثل طوق النجاة لهم إن أرادوا الاحتكام (دينيا) لشريعتهم. الأمر الثانى ما ورد على لسان البابا (تلقيت رسالتين من الرئيس فى هذا الشأن، نقلهما الدكتور زكريا عزمى والدكتور مفيد شهاب. وبالطبع فإن سياق الحديث قد يعنى كما نشرت المصرى اليوم أنها رسائل تطمين من الرئاسة، وأفهم أيضا أن هذه الرسائل ليست تدخلاً فى عمل القضاء وإلا فعلى مصر السلام. ربما يرى البعض أن التظاهر والاعتصام والتنديد وبيانات الرفض التى خرجت من الكنيسة، ومن بعض القيادات المسيحية شكلت عوامل ضغط على الحكومة، مما قد يدفعها إلى تليين موقفها فى هذا الشأن، ولكننى وبصراحة أعتقد أن الأمر جد بسيط، فالأقليات غير المسلمة فى المجتمعات المسلمة أو ذات الأغلبية المسلمة يجب أن تحتكم إلى شريعتها وفق قانون يحترم خصوصياتها، ولكن المواطنين جميعا يجب أن يقفوا سواسية أمام القضاء فيما عدا الأمور الاجتماعية. الخطر الأعظم من وجهة نظرى فى هذه القصة التى انتظرت طويلاً حتى أكتب عنها هو أن تتحول الرموز الدينية عن دورها التربوى والروحانى إلى رموز سياسية (أشبه بالمقدسة) ولكن إذا أراد البابا أو شيخ الأزهر أو رئيس الجمعية الشرعية أو زعيم أنصار السنة دخول ساحة العمل السياسى العام، فلينس أنه زعيم دينى تحميه مكانته الدينية من طرح الأسئلة حتى وإن كانت خشنة أحيانا. آخر السطر: قال صلى الله عليه وسلم: "من عادى ذمياً فأنا خصيمه يوم القيامة" رواه البخارى..