كنت أشك فى نفسى وفى طريقة التربية التى أتبعها من كثرة قلقى على أولادى، وخاصة ابنى "نور" كلما غدا أو راح. "خلى بالك من نفسك يا حبيبى" هى كلمة تلقائية تودع بها أى أم ابنها لدى خروجه من البيت، تخرج من فم أى أم، ربما لأنها أم، ولكن لأن هناك أيضا شعورا عميقا بداخل هذه الأم بوجوب الدعاء والرجاء الناتج عن قلق يعتمل ويغلى دائما داخلها كالمرجل، وإحساس بأنه هناك "حالة" من اللاأمان نعيشها، شر مستطير ينتظر فلذة الكبد خارج البيت. فهل نخاف على أبنائنا من التريلات التى يقودها سائقون يجرى الحشيش والبانجو والجهل فى عروقهم مجرى الدم، أم من خطر الخطف والقتل بهدف سرقة الأعضاء، أم من خطر" التثبيت" بسبب ازدهار الفقر، والجوع، فى كل الأحياء بلا منازع، لا فرق بين أم بيومى وشارع 9 فى المعادى؟! صمت طويلا عندما سألنى ابنى البالغ من العمر 15 عاماً منذ شهر تقريباً، قائلاً:" ماما.. وأنا رايح النادى فيه ظابط بيوقف الميكروباص على جنب وبينزل الشباب من العربية دايماً، ويفتشهم، أنا خايف ينزلنى زيهم فى مرة من المرات.. ماما أعمل إيه؟! أنا محبش حد يعمل معايا كده؟!.. ماما أعمل إيه؟! أصدقكم القول أننى لم أستطع الرد بإجابة تقنعه، وتهدئه، قلت له: "حبيبى احتمال كان فيه حد هربان وبيدوروا عليه، وبعدين إنت شكلك مهذب وابن ناس ومحدش ح يفكر يعمل معاك كده"، فعاجلنى بالرد: "لا.. عمرو صاحبى ابن الدكتور إيهاب عملوا معاه كده، هوه عمرو مش ابن ناس؟!" فسألته: "فعلاً؟! وعمل إيه؟! فأجابنى: "ولا حاجة سمع الكلام ونزل وفتشوه يا ماما، بس أنا مش بحب حد يعمل معايا كده وبفكر معملش زى عمرو، أنا مش حنزل، ومش ح يفتشنى حد هو أنا حرامى، أنا رايح النادى؟! انتهى حديثنا بمداعبة حاولت أن أغير بواسطتها مجرى الحديث وأنهى ورطتى فى عدم تمكنى من الرد المقنع عليه، ماذا أقول له، هل أقول له أن هذا منهج بلا منطق وعليه أن ينصاع؟ هل أعلمه أنه لا مانع من إهدار كرامته، وإلغاء عقله، وكل شىء، أم هل أحييه على شجاعته، وعزته، بدون أن يحدثنى قلبى بخوف عليه من تعرض جسده النحيل لبطشة غبية من جسد سمين، أو لطشة "أبيحة" من لسان وقح قليل "الرباية"؟! تذكرت ما دار بينى وبين "نور" وأنا أطالع صورة "خالد" العشرينى، الذى يكبر نور بسنوات قليلة، لوهلة سرحت فى أمه التى لا أعرفها، هل كانت تقول له "خلى بالك من نفسك يا حبيبى" عندما يهم بالخروج للشارع، هل قالتها له يومها؟!، هل كانت تراه فيمتلئ قلبها بهجة وتتخيل يوم زواجه، فتغار لهنيهة ويزغرد قلبها لليال وسنوات؟! هل حدث ما حدث لأن الحاجب أصبح ينادى: "قفلت المحكمة"، بدلا من "محكمة..."، فيبتهج المظلوم بقرب قدوم العدالة، ويعض الظالم على يديه ندماً لقرب القصاص منه؟! دوائر العدالة فى بلدى تدور حول نفسها، "تتكعبل" فى خيوط الظلم العنكبوتية، فلماذا لا يبطش من يبطش، ويسحل من يسحل؟! فمن المسئول عن تعطيل العدالة، وتطفيش الأمان من بلدى؟! وإلى متى؟! بالأمس سجل ابنى نور اسمه فى جروب "كلنا خالد"، على الفيس بوك، لم يعد ينطق، لم يعد يجادلنى، لم يعد يسألنى أعمل إيه، فصورة خالد وقراءة السطور كانت كافية، أجابت نيابة عنى، وليتها لم تجب، فقط سألنى ابنى، وبدون أن أتمكن من تحديد هل يستنكر أم يستعلم: "هوه إحنا ح نعيش فى مصر يا ماما على طول؟؟!! هل تعرف يا خالد، بمقتلك ماذا فعلت؟.. هل تعرف يا خالد كم أوجعت قلوب الأمهات.. وحيرت ألسنة العقلاء؟.. وهل تعرف يا خالد أنك بمقتلك أشعلت ساحات وساحات.. إلكترونية، واجتماعية، وإنسانية، وحقوقية.. ليتك- يا خالد- سافرت على مركبة موت.. ليتك- يا خالد- غادرت لأجل القوت .. ليتك- يا خالد- ما ترجمت الواقع فى صورتك.. الأخيرة صورة المجتمع.