كوخ خشبى فى بقعة من الصحراء، كان هو المكان الذى قرر "نسيم" أن يقضى فيه فترة العزلة التى قررها لنفسه دون أن يسمى لها أجلا. حرص "نسيم" أن يوفر كمية كبيرة من المعلبات والمياه المعدنية بالإضافة إلى مجموعة من الطيور التى أحضرها معه وكمية كبيرة من الحبوب لإطعامها. "نسيم" هو شاب ثلاثينى، يراه البعض فاشلا بينما يراه آخرون سىء الحظ أما هو فأحيانا يرى أنه يطارد حظا هاربا راكضا أمامه كظبى هارب من سبع جائع، وأحيانا أخرى يرى نفسه فاشلا وأن الحظ متهم برىء من ذنبه، ولكنه دائما ما يؤمن بأنه يستحق أن يكون فى شأن أفضل مما هو عليه وأن لديه ما يجعله مستحقا للنجاح وإنما عليه أن يتخلى عن فشله فى استغلال ما لديه وعلى حظه أن يكف عن الهروب منه وأن يعود إلى أحضانه واعدا إياه ألا يتخلى عنه مرة أخرى. قرر "نسيم" أن يهجر الجميع... مدينته وأصدقاءه وأعداءه.. قرر أن يترك خلفه مشاكله وخيباته ويلجأ إلى العزلة الاختيارية التى اختار لها هذا المكان البعيد عن كل شىء يخص حياته. إنه اليوم السابع له فى هذا المكان، لم يشعر بملل أو حنين إلى ما تركه بل أصبح يشعر تدريجيا بارتياح أكثر وانتماء إلى هذا المكان.. يشعر أن له جذورا باتت تشق لنفسها طريقا فى هذه الأرض لعلها تنبت إنسانا جديدا. اعتاد "نسيم" أن يجلس إلى منضدة خشبية فى أحد الأركان يضع فوقها كتبه وأوراقه البيضاء التى اعتادت بدورها أن تنتظره ليروى لها يوميا ما يجيش بصدره وما يجول بخاطره منذ أن وطأت قدماه هذا الكوخ. تواجه المنضدة مباشرة مرآة كبيرة وقد وضع بجانبها نبتة صغيرة فى إناء كان حريصًا كل الحرص على الاهتمام بها يوميا. أمسك بقلمه وأقبل على أوراقه البيضاء ليكاشفها بما يفكر فيه، راح يشكو لها معنى خيبة الأمل فى حبيبته التى لم تتفهم طبيعة شخصيته وخذلت طموحه فى أن تكون هى المرأة التى يلقى بغموضه وكبريائه تحت أقدامها ليكون طفلا صغيرا بين ذراعيها ورجلا مكتمل الرجولة فى عينيها يحيطها بكامل رعايته وحنانه. وبينما هو منهمك فى البوح ناظرا إلى أوراقه تارة وإلى مرآته تارة أخرى، رأى فى المرآة رجلا قادما نحوه، فانتفض فى ذعر قائلا: - من أنت؟ وماذا تريد؟ وكيف دخلت إلى هنا؟ ابتسم الرجل ابتسامة هادئة ثم قال: اهدأ يا صديقى.. لا تخف لم يمهله "نسيم" أن يكمل ما يقول فتناول سكينا من فوق المنضدة وأشار به نحوه قائلا بصوت عال لا يخلو من نبرة خوف: - قف مكانك لا تتحرك.. من أنت؟ وماذا تريد؟ وكيف دخلت إلى هنا؟ توقف الرجل ولم تفارق وجهه الابتسامة المريحة ثم قال: أنا رجل غريب ودخلت من هذا الباب (مشيرا إلى باب الكوخ)، هل نسيت أنك لم تغلق بابك من الأصل يا عزيزى؟ تدارك "نسيم" أنه لا يغلق الباب إلا فى آخر الليل... فابتلع ريقه ثم سأله مرة أخرى والقلق لم يتخل عنه بعد: - وما الذى جاء بك إلى هنا؟ فأجابه الزائر والعرق يترقرق على جبينه وعناء السفر الطويل باد عليه: سأروى لك إن شئت ولكن هل لى أن أرجوك أن تروى عطشى؟ ناوله "نسيم" كوبا من الماء ثم جلسا معا حيث تبادلا حديثا طويلا ومن الغريب بل ربما يكون أغرب الغرائب أن هذا الحديث الطويل لم يكن حول قصة الرجل الغريب الذى فاجأ "نسيم" فى معزله فقد أنساه الحديث وشغفه بحكمة الزائر أن يسأله عن حكايته وعن سبب زيارته. طلب الغريب منه أن يقرأ عليه آخر ما دونه فى أوراقه فتناول "نسيم"- دون أى تردد- آخر ورقات كتبها اليوم وراح يقرأها له وكأنما كان ينتظر هذا الزائر منذ أمد طويل ليقص عليه ويبوح له. كان يتحدث عن حبيبته التى خذلته، ظل الغريب يستمع إليه إلى أن أنهى حديثه بتلك العبارة: (لم تكونى مختلفة عنهن، خذلتينى كما خذلننى، كنت قد ظننت أنى وجدت ضالتى فيك و لكن كدأبكن معى، أوقظتينى مثلهن من حلم عشته فوق السحاب على جرح أنهك واقعى). صمت الرجل قليلا ثم نظر إلى "نسيم" قائلا: - عزيزى "نسيم"، أرجوك أن تحاول أن ترى الأمر على حقيقته وليس كما تريد أن تراه. ما أراه أنا هو أنك تسعى وراء شىء أنت تعلم مواصفاته جيدا وتريده بشدة ولكنك كلما اقتربت منه ارتبكت وحاولت الهروب وألقيت باللوم على الطرف الآخر... نعم إن الأطراف الأخرى كانت لها أخطاءها لكنها لم تكن السر فى ابتعادك. واجه نفسك بشجاعة واسأل نفسك: هل خذلت أنا أيضا آمال الطرف الآخر؟ هل كنت عادلا فى تقييم الأمور؟ أصبح "نسيم" ينتظر زيارات الغريب بلهفة، كان يشعر وكأن حكمة الغريب هى الماء الذى يسقيه لينبت رجلا جديدا كم تمنى طويلا أن يكونه. لم يكن الغريب فى البداية زائرا منتظما فى زياراته ولكنه مع مرور الوقت صار يزوره يوميا كلما تزوره الشمس. اعتاد "نسيم" أن ينتظره جالسا فى مواجهة مرآته لعله يراه قادما إليه كما رآه أول مرة. جاء الزائر المنتظر فى موعده وجلسا كعادتهما يتبادلان أطراف الحديث ثم مع اقتراب غروب الشمس خرجا ليسيرا حول الكوخ. تعلقت عينا "نسيم" بسرب من الطيور يسافر فى السماء، ثم قال ولازالت عيناه تراقب السرب: - كنت أتمنى أن يخلقنى ربى طيرا فأطير إلى حيث أشاء وأستمتع بالحرية وأرفرف بجناحى فى جو السماء. ثم نظر إلى صاحبه مستطردا: - إننى أغبط الطيور ولو كان متاحا لى الاختيار لاخترت الآن أن أتحول إلى طائر حر... إنى جاد فيما أقول. ابتسم صاحبه ثم قال: ربما كنت محقا فى أمنيتك ولكن طيرانهم ليس أمرا بسيطا أو سهلا، إنه أمر شاق تقوم به أجنحتهم. ضحك "نسيم" قائلا: يا صديقى لا تفسد الصورة الحالمة التى كونتها فى خيالى. ابتسم صاحبه قائلا: لم أتعمد إفساد الصورة الحالمة فى خيالك لكنك أكدت على جديتك فيما تقول فأرادت أن أواجه جديتك بما قلته لك. ثم استطرد قائلا: أنت كإنسان قد تملك فضاءً تحلق فيه بجناحيك أوسع كثيرا من فضاء متاح للطير يخشى فيه أن يكون صيدا لجارح أو لبندقية صياد على الأرض أو يخشى فيه أن يكل جناحيه فيحتاج إلى الراحة. أنت قد تملك فضاءً يشعرك بحرية لا نهائية فقط تحرر من أثقالك وحلق فيه بروحك. أشرقت شمس اليوم الأربعين وجلس "نسيم" إلى المنضدة فى مواجهة المرآة منتظرا قدوم صديقه، وبينما هو كذلك رأى فى المرآة صديقه قد جاء ولكنه كان واقفا ثابتا لم يقترب ثم ابتسم ابتسامة رضا صافيه ثم تهشمت المرآة فنظر "نسيم" خلفه حتى يرى صاحبه ذا الابتسامة الصافية فلم يجده فأسرع إلى خارج الكوخ يبحث عنه لكنه لم يجد له أثرا. عاد "نسيم" إلى الكوخ وعقله يضج بالتساؤلات، توجه تجاه بقايا المرآة المتهشمة فلاحظ تلك النبتة التى طالما حرص على أن يسقيها يوميا قد نمت وأزهرت. حينها أدرك "نسيم" من هو صاحبه الحكيم، وأدرك أيضا لماذا كان لا يأتى إلا حينما ينتظره أمام المرآة، وأدرك أيضا أن النبتة قد أزهرت الآن وحان وقت العودة من العزلة التى لم تخذل مراده منها.