إن القسط فى اليتامى هو شرط من شروط إباحة التعدد الذى أبيح للرجل، حرصا على تحقيق العدل ورفع الظلم عن هذه الفئة الضيعفة المغلوبة على أمرها، باعتبار اليتيم فقد أباه وسنده وحضنه وحصنه ضد غدر الزمن أو ضد من قد يضمرون له شرا بأخذ ماله أو ظلم أمه ظلما شديدا. وقد يقول قائل: ألا يحق للرجل أن يُقدم على الزواج إذا مرضت امرأته مرضاً شديداً؟ إن من يتعرض لهذا الابتلاء الرهيب عليه ألا ينسى قول الله عز وجل: ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِ وَالخَيْرِ فِتْنَةٌ ) (35 الأنبياء). أين ذهب الإيمان بقضاء الله خيره وشره بل أين ذهبت المودة والرحمة؟ وكيف يكون شعوره إذا كان هو الذى مرض؟ هل سيكون راضياً أن تتخلى عنه زوجته بهذه البساطة وتطلب الطلاق منه دون أى اعتبار لعشرتهما معا؟ والحُجة التى يحتج بها أصحاب هذا الرأى الذى قد يتسبب فى تدمير حياة زوجية ربما استمرت لعشرات السنين، إن الرجل يجب أن يعف نفسه، ويا للغرابة ! لا يفكر الرجل؛ بل لا يضع فى حسبانه أن المرأة أيضا يجب أن تعف نفسها. إذا انقلبت الآية وكان هو الذى ابتلى بالمرض، هل من واجب المرأة فقط أن تقدم التنازلات والتضحيات من أجل الرجل الذى قد يضحى بها وبأبنائه فى سبيل تحقيق نزواته وشهواته؟. ما أحوجنا إلى حكمة عمر بن الخطاب عندما سمع وهو يعس كعادته متفقدا أحوال رعيته فى طرقات المدينة ليلا كعادته، عندما سمع امرأة تناجى ربها أنها لولا الخوف من الله لاهتز فراشها من فرط شوقها لزوجها، فسأل ابنته أم المؤمنين السيدة حفصة - رضى الله عنها - عن مدى احتمال المرأة الصبر على غياب زوجها، فاستحيت السيدة حفصة، فقال عمر: لا حياء فى الدين يا حفصة، فقالت: تصبر المرأة أربعة أشهر، فأمر - رضى الله عنه - ألا يطول غياب الرجل عن زوجه فى الحروب عن هذه المدة، رأفة بحال المرأة وإعفافاً لها، رضى الله عن عمر. وهناك فريق آخر يدعى أن من حق الرجل أن يتزوج على زوجه إن كانت عقيماً، وهى الزوجة الصالحة التقية، لقد أذنبت أنها لم تنجب لزوجها الابن الذى يريد، فحق عقابها والتزوج عليها، ونسى هؤلاء أن الله عز وجل هو من يرزق قال تعالى (ويجعل من يشاء عقيما) (50 الشورى) ورزق الله سبحانه لعباده قد يكون مالا وقد يكون أبناء، وهذا رزق من عند الله وليس للزوجة أو للزوج يد فيه هنا يتجلى إيمان المرء ورضاه بقضاء الله خيره وشره، أما أن يتخذ بعض الرجال مبدأ تعدد الزوجات ذريعة لهم للحصول على الابن بزواجه من أخرى، فهذا ما لم تنص عليه الكريمة فى تعدد الزوجات، وقد يحتج فريق آخر أنه يحق له أن يتزوج على زوجته أنها لا تنجب له سوى البنات، وقد أثبتت الدراسات العلمية أن ماء الرجل هو الذى يحدد نوع الجنين والمرأة لايد لها فى كون ذريتها بنين أو بنات، قال تعالى: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ) (الشورى 49). وقد يقول البعض إن زواج الرجل على زوجته إذا ابتليت بالعقم ذلك أفضل لها من أن تصبح مطلقة ادعاءٌ واهٍ، لأن الطلاق شرع الله، وإن كان أبغض الحلال، وقد قمت بسؤال العديد من النساء إذا ابتليت المرأة بكونها عقيماً هل ترضى أن يتزوج زوجها عليها وترى بأم عينيها أبناء زوجها وتتعذب هى بابتلائها أنها عقيم حُرمت من الأبناء، أم تستبدل ذلك كله بالزواج من رجل فقد زوجته وله أبناء يحتاجون أماً فتكون هى أماً لهم؟ فتقوم برعايتهم وتكتسب الثواب الذى وُعد به كافلُ اليتيم من ذكرٍ أو أنثى معظمهن أجبن: أن هذا الحل أكثر رحمة بالمرأة التى لن تصبر على البقاء مجرد زوجة عقيم، وكيف تصبر على ما ليس لها فيه يد؟ والحل الإلهى موجود فى قوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) (اٍلنساء 130)، وهو حلٌ عادلٌ لكلٍ من الطرفين أى إذا كان الرجل هو من كان عقيماً، الحل هو أن يقوم بالزواج من أرملةٍ لها أبناء، هنا يغنيه الله من فضله ويكون فى الجنة مع الأنبياء لرعايته للأيتام. وأما الزوجة فيغنيها الله من فضله، فتتزوج من آخر وتربى أبناءه أو ترزق منه بالأبناء بإذن الله، والله أعلم. وهناك بعض الرجال ممن يعطون لأنفسهم الحق فى تصورهم أن الله عز وجل قد أوجدهم فى هذه الدنيا وخلقهم لحل مشكلة من فاتهن قطار الزواج (العوانس)، فنرى الرجل يبيح لنفسه أن يتزوج على زوجته دون وجه حق وهى الزوجة التقية الصالحة التى لم تقترف إثما فى حق نفسها ولا زوجها وقد يكون لهما أولاد أو لا يكون، بدعوى أن له قريبة أو جارة قد تبقى طوال حياتها دون زواج يتصور الزوج نفسه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ هذه الجارة أو القريبة من البقاء دون زوج!! سبحان الله من أعطاه هذا الحق؟ وكيف سولت له نفسه أن زوجته ستكون مسرورة أو راضية لما أقدم عليه من إنقاذ لأى عانس سواء أكانت قريبة أو غير قريبة لزوجها أوحتى لها؟ بديهى أن الزوجة التى تزوج عليها زوجها لن تصبر على ما لحق بها من الأذى والضرر، وستطلب الطلاق فتكون النتيجة خراب البيت الذى كان قائما ربما لأكثر من عقدين من الزمن، وإن كان لهما أولاد فسيكونون هم أول الضحايا نتيجة تضحية الزوج بنفسه لإنقاذ قريبته أو جارته من مصير العنوسة !! ويتحقق فيه قول الله عز وجل عن القوم الذين (يخربون بيوتهم بأيديهم) (الحشر2). إن بعض كبار المفكرين مع احترامى العميق لرأيهم يرون أن حل مشكلة العنوسة وتأخر سن الزواج يكون بتعدد الزوجات، أنا أرى هذا الحل سيخلق مشاكل جسيمة فى المجتمع وسيؤدى إلى وقوع المزيد من حالات الطلاق، فأى زوجة مهما بلغت من التحضر والعلم والتدين ورقى المستوى الاجتماعى أو دونه لن تقبل أن يتزوج عليها زوجها امرأة أخرى، حتى وإن كانت خالية من الجمال بدعوى إنقاذها من مصير العنوسة، إن حل مشكلة العنوسة يكون بتدخل الحكومة فى القضاء على الغلاء الذى استشرى وارتفاع أسعار البيوت، أما ارتفاع المهور والمغالاة فيها وزرع الصعاب فى طريق من يتقدم لبناتنا فهذا حله بيد الآباء الذين نسوا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير"، وهل هناك فتنة أكبر من ذلك؟ عنوسة البنات وتأخر سن الزواج؟ وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها (أى سهولة تزويجها). وتطبيق التعدد على النحو العادل الذى شرعه الله عز وجل وهو الحرص على تحقيق القسط والعدل لليتامى بالزواج من أمهاتهم يشيع فى المجتمع الإسلامى روح الود والتكافل، خاصة عند الشدائد مثل فقد الزوجة لزوجها وفقد الأبناء لأبيهم. هذا هو الحل الأمثل للقضاء على العنوسة وليس بالقضاء على البيوت المستقرة الآمنة وهدمها على رؤوس النساء والأولاد، ومن ثم إهمال الفئة الضعيفة التى اشترط القرآن فيها مبدأ التعدد تحقيقا للعدل والقسط فى اليتامى. والله أعلم. والله من وراء القصد.