قررت هذا العام أن أصنع باقة ورد لأمى بمناسبة عيد الأم، وقد راودتنى هذه الفكرة وأنا أسقى الزهور والشجيرات الصغيرة التى ملأت بها شرفتى فى الفترة الماضية. أخذت مقصًا وقصافة وسلة صغيرة من المطبخ ودخلت الشرفة كى أنفذ فكرتى، كنت أشعر بسعادة غامرة وأنا أفعل شيئًا من أجل أمى بعد سنوات طويلة توقفت عن صنع أى شىء لها، بينما أتأمل نباتات الفيكس روبستا والبوتس والريحان والفل والياسمين تذكرت كم كانت أمى تعشق اللون الأخضر والزهور البيضاء كما أعشقها أنا تمامًا، تذكرت حين كنت أمسك بيدها ونخرج فى نزهة صباحية، نسير فى طريق على ضفتيه تصطف أشجار مختلفة الأشكال والأنواع، كانت أمى ترفع بصرها إلى الأعلى وتملأ عينيها باللون الأخضر المُبهج، وهى تردد: يا الله كم أنت جميل، تخلق كل شىء جميل، وتضغط برفق على كفى التى بين أصابعها وتقول لي: انظري.. كيف تختلف الأشجار فى الشكل والأوراق رغم أن الماء واحد والطين واحد، يا لهذا الجمال، إذا كانت أشجار الدنيا رائعة هكذا فكيف تكون أشجار الجنة يا الله؟ انحدرت من عينى دمعة وأنا أتلمس أوراق البنفسج الحزين، بدأت أقطف مجموعة منه، وأقص أعواد الفل والياسمين وأضعه فى السلة، ثم وصلت إلى شجيرة الورد البلدى التى أزهرت مؤخرًا، وقصصت بعضًا منها، وتنحيت ركنًا كى أقلم أعوادها من الأشواك، تذكرت فستان أمى المزركش الذى كانت ترتديه فى إحدى النزهات الصيفية ونحن نتمشى على كورنيش النيل، وتلوح بمنديلها البنفسجى لفتاة صغيرة تبيع الورود فتأتيها راكضة مبتسمة وهى تمد لأمى وردة حمراء قائلة بفرحة: "ريحتها حلوة أوى"، فتسألها أمى: بكام كل هذه الباقة التى معك؟ فترد الفتاة مبتهجة: "باللى تجودى به يا ست"، فتأخذها أمى وتعطيها خمسة جنيهات كانت فى ذلك الوقت تساوى خمسون جنيها ويزيد، فتقفز الفتاة فى الهواء فرحة، وتظل تدعو لأمى حتى تصل إلى الرصيف الآخر، تنظر أمى إلى وهى تمد يدها بباقة الزهور قائلة: الورد لكِ وأنا يكفينى الدعاء وفرحة قلب الصغيرة. أشعرُ بالألم، ولا أدرى إذا كان من وخز ذكرياتى أم من الأشواك التى أزيلها من أعواد الورد وأدمت باطن كفى من طول شرودى، الألم فى قلبى والوخز فى صدرى وغصَّة فى حلقى تسد الطريق أمام الأه. أزيح الذكريات والحنين وآخذ السلة التى جمعت بها الأزهار وأذهب إلى المطبخ لأنسق الباقة، بالشكل الذى كانت تحبه أمى، أفتح درج المطبخ وألتقط شريطًا حريرى أحمر كان يزين علبة حلويات فى وقت سابق، وأربط به باقة الزهور وأعقده "فيونكة" تتهدل مطأطأة وكأنها حزينة مثلى، وأطوق الباقة بالشيفون الأبيض الذى يُشبه فى نقائه وجه أمى. أفتح دولابى وأرتدى فستانًا أسود، وأمسح ما تبقى من دمع أمام المرآة، وأتزين مساحيق الثبات والصبر قبل أن أذهب لأضع باقتى على قبر أمى وأقبل الثرى، كل عام وأنتِ فى الجنة يا أمى، وحشتينى.