ظلت العاصمة المصرية، على مر العصور، تحتل مكانًا استراتيجيًا وفقًا للمعطيات السياسية. ومنذ عصور ما قبل التاريخ، حين كانت مصر قسمين: شمالى عاصمته بوتو، وجنوبى عاصمته الأقصر، احتلت العاصمة مكانة مركزية فى إدارة شئون الدولة. ولعل هذا ما دفع مينا، الذى وحد القسمين فى دولة واحدة، إلى أن يختار موقعًا استراتيجيًا جديدًا، هو منف. وظلت منف، التى تقع عند أعلى الصعيد وعند أسفل قمة الدلتا، العاصمة الوطنية للمصريين حتى عصر الدولة الوسطى، عندما انتقلت العاصمة إلى وسط الصعيد، ثم عادت مرة أخرى إلى طيبة (الأقصر حاليًا). وهذه العودة جاءت نتيجة لغزو الهكسوس لمصر وسيطرتهم على الدلتا وعلى العاصمة الوطنية للمصريين. وعلى الرغم من طرد الهكسوس، فإن العاصمة فى الدولة الحديثة ظلت فى الأقصر، إلا فى فترات قليلة شهدت بعض القلاقل، أو تغيرًا فى المذهب الدينى، على نحو ما حدث فى عهد إخناتون الذى نقا العاصمة إلى (تل العمارنة). ومع تزايد النفوذ الأجنبى، اليونانى خصوصًا، فى عصر الأسرة 26، نقلت العاصمة إلى مدينة فى شمال الدلتا هى (صان الحجر) التى كانت العناصر الإغريقية فيها هى الغالبة، حتى إن الفرعون أبسماتيك استخدم بعضهم فى جيشه. وشيد هؤلاء الإغريق مدنًا فى الدلتا مثل مطوبس. وهكذا ارتبط الحراك الجغرافى للعاصمة بالحراك السياسى. إلى أن شيدت الإسكندرية لتكون عاصمة لمصر البطلمية. وقد يظن البعض أن الإسكندرية عاصمة حدودية، وهو ما يجعل موقعها غير مناسب، إذ أن الجغرافيين يشترطون فى موقع العاصمة ألا تكون معرضة لأى هجوم، أى أن يتوفر لها الأمن بأن تكون داخل الدولة لا على حدودها. ولكن اختيار الإسكندرية كعاصمة لمصر جاء وفقًا للمعطيات السياسية للمحتل اليونانى، الذى أراد أن تكون عاصمته داخل الحوض الشرقى للبحر المتوسط الذى يسيطر عليه، ولذا كانت الإسكندرية بالنسبة إليه مناسبة، ولهذا السبب استمرت كعاصمة فى العصريين الرومانى والبيزنطى. وهو السبب نفسه الذى جعل عمر بن الخطاب بعد الفتح الإسلامى يرفض اتخاذ الإسكندرية عاصمة لمصر، لأنها تحولت، حينئذ، إلى مدينة حدودية. وهكذا أدى التحول السياسى، الذى حدث فى مصر نتيجة للفتح الإسلامى، إلى اختيار مقر جديد للحكم يكون داخليًا وقريبًا من عاصمة دولة الخلافة آنذاك وهى المدينةالمنورة. ووقع اختيار عمرو بن العاص على موقع معسكره بجوار حصن بابليون، الذى يقع قرب التقاء دلتا النيل، بنيل صعيد مصر. وهو موقع قريب جغرافيًا من العاصمة الفرعونية. ونشأت الفسطاط فى أول الأمر، كمعسكر للجند العرب الذين شاركوا فى فتح مصر، وهؤلاء الجند اختطت المدينة لهم وفقًا لانتمائهم القبلى، أو لانتمائهم لإحدى فرق الجيش، وتحولت المدينة بالتدريج من معسكر أو قاعدة لاستكمال فتح مصر وترسيخه، وكذلك كقاعدة للفتوحات الإسلامية فى الغرب، إلى مدينة حقيقية منذ أن تأسست القيروان على يد عقبان بن نافع الفهرى، لجهة أن الأخيرة صارت هى القاعدة التى تنطلق منها الجيوش وتستمد العون منها فى فتح بلاد المغرب. ومع استكمال عمران المدينة فى ما بين خططها، بدأت تظهر شبكة من الشوارع فى العصر الأموى. ومع التحول السياسى بتولى العباسيين أمر الدولة الإسلامية، فإن هؤلاء أسسوا معسكرًا بجوار الفسطاط كمقر لجندهم اسموه العسكر، وذلك لاستقرار الحياة المدنية فى الفسطاط، والتى لم تعد تصلح لاستقبال الجنود وإقامتهم. ولما أسس ابن طولون دولته، اتخذ لجنده مكانًا جديدًا هو القطائع، وهى امتداد طبيعى أيضا للفسطاط، وتحولت كلا من العسكر والقطائع إلى ضاحيتين للفسطاط. ولكن مع تأسيس حصن أو مدينة القاهرة، تحولت للمرة الأولى الوظيفة السياسية من الفسطاط إلى القاهرة. ورغم هذا التحول شهدت الفسطاط أوج ازدهارها الاقتصادى والعمرانى. إلا أن تعرض هذه المدينة للحريق، على يد الوزير الفاطمى شاور، دفع الأثريين والمؤرخين إلى الاعتقاد بأنها اندثرت. لكن الثابت أن الفسطاط شهدت فى العصريين الأيوبى والمملوكى حركة عمرانية نشطة. إلا أن ذلك لم يكن بالقدر نفسه الذى كان للقاهرة، التى تحولت بالتدريج، بدءًا من العصر الأيوبى، إلى مركز اقتصادى سلب من الفسطاط الكثير من وظائفها الاقتصادية. هذا فضلاً عن تحول مقر الحكم من القاهرة إلى قلعة صلاح الدين، والتى صارت مدينة ملكية متكاملة حتى عصر الخديوى إسماعيل، الذى فضل إدارة شئون البلد من قصر عابدين فى القرن التاسع عشر. ويعود السبب فى الاعتقاد الخاطئ باندثار مدينة الفسطاط إلى عاملين: الأول بقايا مدينة الفسطاط القديمة، وهى تلك التلال التى جرت فيها أعمال الحفر الأثرى فى القرن العشرين. وأوحت تلك التلال لكثيرين بأنها هى نفسها مدينة الفسطاط، بينما هى تمثل مجرد جزء من المدينة. والعامل الثانى هو تحول اسم المدينة بمرور الوقت من الفسطاط إلى (مصر) من باب إطلاق اسم الكل على الجزء الذى هو حاضرة البلاد آنذاك. وإطلاق اسم الكل على الجزء نراه كذلك فى سورية حيث يطلق على العاصمة السورية دمشق (الشام)، لأنها كانت وما زالت حاضرة بلاد الشام. وهذا التحول فى الاسم رأيناه يفرض نفسه يوماً بعد يوم على كتابات المؤرخين والجغرافيين. فعلى سبيل المثال: المقدس المتوفى فى القرن العاشر، خصص قسماً من كتابه (أحسن التقاسيم) لفسطاط مصر، وآخر لوصف القاهرة. بينما يذكر ناصر خسرو، اسم "مصر" صريحًا فى رحلته، بدلاً من اسم الفسطاط. وكذلك فعل ابن الأثير الشىء نفسه. ونسى المؤرخون اسم الفسطاط تدريجيًا إلى أن صار علمًا على المدينة. ولكن مع تأسيس القاهرة ثم القلعة كمقر للحكم، عامل الجغرافيون كلاً من مصر والقاهرة والقلعة، على أنها ثلاث مدن منفصلة، ورأينا (مصر) بمرور الوقت يطلق عليها (مصر القديمة)، وهى التسمية التى رسخت فى العصر العثمانى، وإلى يومنا هذا. فإذا كانت الفسطاط تحول اسمها من مصر إلى مصر القديمة فإن هذا التحول يحمل فى طياته سببًا غير معلن. ولعل هذا السبب يعود إلى اعتبار المصريين أن القاهرة والقلعة فى ما بعد، هما مدينة مصر الجديدة، وهذا ما يعبر عنه كتاب "النخبة الوفية فى علم الجغرافية"، وهو من تأليف يعقوب صبرى أفندى، ويعد أول كتاب وضع بالعربية فى جغرافية مصر والعالم فى القرن التاسع عشر، إذ يذكر أنه كان يطلق آنذاك على القاهرة "مصر". وتعود غلبة اسم القاهرة على اسم العاصمة الرسمية لمصر، إلى أنها كانت منذ العصر المملوكى أكبر الحواضر القريبة من القلعة، وهو الأمر الذى جعل العمرى، وهو جغرافى عاش فى العصر المملوكى، يعتبرها قاعدة مصر. وجاء الخديوى إسماعيل ليوسع من المدينة فى ضاحية الإسماعيلية أو ما يعرف اليوم بوسط القاهرة. ورسخ اسم القاهرة كعاصمة لمصر دوليًا نتيجة لكتابات الرحالة الأوروبيين، الذين انبهروا بعمرانها خصوصا مع ارتباطها فى مخيلة الغرب بقصص "ألف ليلة وليلة". ورسخت هذا أيضا الخرائط الجغرافية التى صارت تطلق على عاصمة مصر (القاهرة) بدءًا من خريطة الحملة الفرنسية. وحتى نهاية القرن 19 كان يطلق على القاهرة (محافظة مصر)، وهذا الأمر يتضح خصوصًا فى الأوامر الخديوية. ولكن ينبغى ملاحظة أنه إذا كانت القاهرة هى العاصمة الرسمية، فإن الفسطاط أو (مصر) ظلت هى العاصمة الشعبية لمصر. ويعنى المصريين ب"مصر" تلك المدينة التى نمت منذ أسس عمرو بن العاص مدينة الفسطاط، إلى أن تضخمت وصارت إقليمًا كبيرًا يتكون من عدد من المدن هى: القاهرة ومصر القديمة وحلوان ومصر الجديدة والجيزة وعين شمس وإمبابة، وسكان هذا الإقليم يمثلون خمسة وعشرين فى المئة من سكان مصر. ولذا حق للمصريين أن يسموا هذا الإقليم "مصر" وليس القاهرة الكبرى كما يطلق عليه رسميًا بطريق الخطأ. وأهل الدلتا والصعيد يعتبرون إلى اليوم أن عاصمة مصر هى "مصر".