يمثل "التقويم والتأريخ" ثقافة وحضارة ووعيا وتحققا وإثبات وجود وفرض ثقافة وشخصية دولة، وبمراجعة للتاريخ نجد أن كل الحضارات التى بقيت آثارها حتى الآن كانت تملك تقويما ينظم حياتها وحضارتها، لذلك من المنطقى أن نتوقع أنه كانت هناك حضارات اندثرت وذهبت مع ريح التاريخ لأنها لم تملك تقويما تعيد به حسابات زمانها ومعرفة الضائع من أيامها، وقد أدرك المسلمون هذه المسألة مبكرا، وعرفوا أن التقويم جزء أساسى فى بناء الدولة. و كان العرب قبل الإسلام يُؤرّخون لحياتهم بحدث كبير يكون قد ترك أثرا واضحا فى طريقة حياتهم، مثل عام الفيل ومن قبله حرب البسوس وغير ذلك من الأيام المشهورة، واستمر ذلك حتى بعد مجىء الإسلام، فقد ظل المسلمون يؤرخون مرة ببعثة الرسول وأخرى بعام الحزن وغيرها، وكان ذلك متماشيا مع المرحلة التى تمر بها الدعوة، حتى بعد الهجرة كانوا يطلقون على كل عام اسما لتمييزه كما أنهم ظلوا تحكمهم تواريخ الأحداث الكبيرة. ولكن بعد اتساع الدولة الإسلامية وتجاوزها للجانب العربى وامتداد تأثيرها للعالم المحيط، خاصة بعد فتح بلاد فارس عام 636 ميلادية، وهزيمة الروم فى موقعة مؤتة، كان على الدولة القوية أن تعيد طرق تفكيرها والبحث عن وسائل تمكين جديدة، فقد فتحت المجال لتخيلها وأصبحت الأحلام حقائق، وأصبحت لديهم القدرات على هزيمة أكبر القوى العالمية "الفرس" ويخططون لهزيمة البيزنطيين فى "مصر"، لذا كان لابد من أفكار جديدة تتعلق بالتمكين، ومن هنا جاءت فكرة التقويم الإسلامى. والمعروف أن الخليفة عمر بن الخطاب هو أول من أقر العمل بالتاريخ الهجرى، حيث عاد إلى سبع عشرة سنة مضت، فقد أخرج الحاكم عن الشعبى "أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرخ بالمبعث، وبعضهم أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا قال بعضهم: ابدأوا برمضان فقال عمر: بل المحرم، فإنه منصرف الناس من حجهم فاتفقوا عليه". ويمكن النظر إلى هذا الأمر من نواح عديدة تدل على فطنة وذكاء الخليفة عمر بن الخطاب ومنها: - اجتماع عمر لمناقشة اختيار بداية لتأريخ جديد يدل على تقديره للوضع الذى أصبحت فيه الدولة الإسلامية، ولدور الكتب والمراسلات التى توجه للعمال فى البلاد البعيدة ووضع تاريخ لها خاص بالمسلمين يمنحها نوعا من الهيبة التى تحتاجها الدولة فى هذه الآونة. - عدم اختيار المبعث (أى بعثة النبى) صلى الله عليه وسلم واختيار الهجرة، جاء ذلك تأثرا بالعرب فى اختيار الأحداث الفارقة، ومع أن بعثة النبى مثلت نقطة التحول إلا أن الخليفة القوى اختار لحظة القوة التى هى لحظة بناء الدولة وامتلاكها لشخصيتها، لأن التقويم يرتبط بفرض شخصية أكثر من ارتباطه بطقوس الدين، كما أن اختيارهم للتقويم القمرى وليس الشمسى، لأن هذه من البداية هى شهور عربية كانت مستخدمة من قبل فى جزيرة العرب، وحتى يبتعدوا عن التشبه بالديانة المسيحية. - أما اختيار أن تبدأ السنة بشهر "المحرم" فقد كان قمة ذكاء الخليفة، لأنه اختار الشهر الذى جاء بعد "بيعة العقبة" والتى كانت فى شهر ذى الحجة سنة622، وبيعة العقبة هى التى بايع فيها الأنصار النبى واستعدوا لاستقباله فى المدينة، وبهذا يكون الخليفة الراشد قد أرضى أهل المدينة وجعلهم شركاء مع المهاجرين فى التأريخ للحضارة الإسلامية القادمة والمتوقعة والتى كان يراها الخليفة رأى العين أمامه. وعلى هذا يمكن تحليل سبب عدم الاهتمام بالتأريخ الهجرى وأن التقويم الميلادى فرض نفسه على المجتمعات الإسلامية كل ذلك بسبب التدهور الذى أصاب المجتمع الإسلامى فى القرون الأخيرة.