مثل كل البشر، لا يتفق الجميع على أى إنسان حبًا أو كرهًا، حتى الأنبياء لم يسلموا من تقلبات النفس الآدمية. فى كثير من الأحيان كنت أختلف مع زوجتى على حب نجم إعجابًا بأدواره التمثيلية، سينما/ مسرح/ دراما تليفزيونية/ أو حتى إذاعية، وقد نتفق على آخرين، فهى مثلًا تمتعض من أعمال العملاق الراحل توفيق الدقن، مبررة ذلك بأن معظم أدواره مغلفة بالخبث والسُكر والعربدة، حتى جزار العباسية الذى كان يبتاع منه «الدقن» ما يحتاجه من لحوم أسفل العمارة التى يقطنها كان يأبى أن يبيع له فى بداياته الفنية لأنه لا يسمح للصوص بدخول محله! وهكذا ظل الجزار- لعدة أشهر- ينظر إلى توفيق الدقن شذرًا كلما خرج من المنزل أو عاد، مثل معظم أهل المحروسة الطيبين الذين لا يفرقون بين الواقع والتشخيص، خصوصًا مع بدايات هذا العبقرى فى خمسينيات القرن المنصرم، وقبل ازدياد الوعى الفنى لدى الناس، وارتفاع الذوق العام. المليجى وأم الدقن! عشقت والدة توفيق الدقن الأداء البارع لمحمود المليجى، الأمر الذى جعلها تبارك لابنها الوحيد اقتحامه مجال التمثيل، وهى الفلاحة الصعيدية التى ولدت بالمنيا، ومهنة ابنها الجديدة تعتبر من المهن المشينة غير المرغوب فيها آنذاك، ومع ذلك تمنت الأم أن يصل ابنها إلى ما وصل إليه محبوبها. وبالفعل أصبح المليجى صديقًا له منذ أول تعاون بينهما فى فيلم «أموال اليتامى/ 1951» وارتبط كثيرًا به، سواء فى الأفلام أو الحياة، ولعلك تعلم أنهما كوّنا مع فريد شوقى ثلاثيًا سينمائيًا شهيرًا أثمر عشرات الأفلام الناجحة. سطع نجم «الدقن» فى سماء الفن، وتلألأ بين كوكبة من أقرانه الذين سلكوا النهج نفسه لأدوار الشر ذات خفة الظل، مثل العملاق استيفان روستى، لكنه تميز بأسلوبه الخاص دون أن يقلده، وهو صاحب المقولة الشهيرة «ليس هناك دور كبير وآخر صغير، ولكنّ هناك ممثلًا كبيرًا وآخر صغيرًا». اسمه بالكامل توفيق أمين محمد الشيخ الدقن، ولد فى الخامس من مارس عام 1924 فى قرية هورين، مركز بركة السبع، فى محافظة المنوفية، وعلى الرغم من أنه كان يعمل فى أثناء دراسته فى السكك الحديدية بالقاهرة لمساعدة أسرته، فقد حرص على صقل موهبته بالدراسة، حيث التحق بمعهد الفنون المسرحية 1947 دون أن يخبر والده الذى كان يريد أن يكون مثله رجلًا أزهريًا، ثم التحق بفرقة المسرح الحر بعد تخرجه 1950، ولمدة سبع سنوات، ثم عمل بالمسرح القومى منذ عام 1958 حتى وفاته. ما بين فيلمى «ظهور الإسلام/ 1951، وسعد اليتيم/ 1985» قدم «الدقن» خلالهما ما يقرب من مائتى فيلم من أشهرها «الفتوة/ 1957»، و«درب المهابيل»، و«ابن حميدو»، و«عريس مراتى»، و«سر طاقية الإخفاء»، و«الناصر صلاح الدين»، و«مولد يا دنيا»، و«ألمظ وعبده الحامولى»، و«مراتى مدير عام»، و«أدهم الشرقاوى»، و«يوميات نائب فى الأرياف»، و«على باب الوزير»، و«الشيطان يعظ»، وغيرها الكثير والكثير. شارك توفيق أيضًا فى عدد من المسرحيات، منها «عيلة الدوغرى»، و«بداية ونهاية»، و«سكة السلامة»، و«المحروسة»، و«الفرافير»، و«عفاريت مصر الجديدة»، كما شارك فى بطولة العديد من المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية، منها «سمارة»، و«المحروسة 85»، و«القط الأسود»، و«هارب من الأيام»، و«نور الإسلام»، و«مارد الجبل»، و«أحلام الفتى الطائر». إفيهات خالدة من منا لا يستخدم إفيهاته/ لزماته التى اشتهر بها حين يقتضى الموقف ذلك، مثل «أحلى من الشرف مافيش/ آلوه يا أمم/ يا آه يا آه/ صلاة النبى أحسن/ أى والله»، وغيرها من إفيهاته التى لا تنسى، ولعلك تدرى أنه من النادر أن يتضمن فيلم ما لازمة ثابتة يكررها الممثل، لأن زمن الفيلم قصير، بعكس المسرحية التى تطول وتتحمل إفيهات كثيرة لأكثر من ممثل، ومع ذلك فإن توفيق الدقن- ربما هو الوحيد- الذى كسر هذه القاعدة الفنية، حتى صار الناس تردد إفيهاته بمحبة وسعادة! حصل توفيق الدقن على العديد من الأوسمة وشهادات التقدير، منها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1956، والاستحقاق والجدارة فى عيد الفن عام 1978، ودروع وجوائز أخرى من المسرح القومى، واتحاد الإذاعة والتليفزيون، وجمعية كتاب ونقاد السينما، وجمعية الفيلم، كما حصل على جوائز عن أدواره فى عدد من الأفلام، منها «فى بيتنا رجل»، و«الشيماء»، و«صراع فى الميناء»، و«القاهرة 30»، و«ليل وقضبان».