سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
محمد حسنين هيكل فى حواره مع "الأهرام".. مصر فى "حالة ثورة" والأخطار المحدقة بلغت عنان السماء.. "الأستاذ": الأحزاب لم تعد قادرة علي إقناع الناس بها.. والإسلاميين تسكنهم تناقضات التاريخ وصراعات المذاهب
أكد الكاتب محمد حسنين هيكل، أن الاخطار المحدقة بمصر بلغت "عنان السماء"، لافتا أن بعضها داخلي والآخر خارجى، وهو ما دفع الشعب المصري الي طلب سلطه تستوعب ضرورات التغيير وتفتح آفاق المستقبل امامه وتضمن استحالة العودة الي الوراء. وشدد "الأستاذ" فى حواره مع "الأهرام" على أن البلاد تعيش "حالة ثورة" وليس "ثورة" بالمعني الكلاسيكي المتعارف عليه. وإلى نص الحوار... كيف يرى الأستاذ هيكل حصاد ثلاثة أعوام من خروج المصريين فى ثورة على حكامهم وحكوماتهم.. ماهو تفسيرك لتلك الحالة الدائمة من «الفوران» بعد عقود من الكمون واستبعاد الثورة .. ؟ وهل نحن إزاء حالة سوف تستمر طويلا أم مرهونة بوصول من يثق فيه المصريون فى صناعة طريق الأمل؟ فى كل ما سمعت منك حتى الآن كثير عن قضية الثورة – ذكرت مرة "ذلك يوم من الثورة"، وتحدثت عن "نجاح الثورة"، وأشرت إلى "إحباط الثورة "، ثم تكررت كلمة "الثورة" عدة مرات. وجهة نظرى مركبة بعض الشيء، ولعلى أتمكن من شرحها. لعلك لاحظت ومنذ 25 يناير 2011 – أننى اقتصدت فيما كتبته أو تحدثت به فى استعمال كلمة "الثورة"، وآثرت أن أستعمل "حالة ثورة". على نحو ما – كان شعورى أن هناك شيئا ما تغير فى هذه القضية. الثورة فيما عرفنا من سوابق التاريخ دورة كاملة متصلة: - شعب غاضب لا يستطيع احتمال ما هو فيه، وينتفض لتغييره. - فكرة أو تصور يبشِّر بقدرته على وعد المستقبل. - قيادة مُعتَرف بها تقود الجماهير فى طلب الفكرة أو التصور. - النظام القديم يسقط. - والأفكار والمشروعات الجديدة تحت قيادة النُخَب الجديدة تضع نظاما يحل محل نظام. دورة كاملة مثل قصة مكتملة: قصة تدور على مشهد (وطن) – لها بطل (على مستوى شعب) – ولها ذروة (سقوط نظام قديم) – ولها عقدة تنفك وينزل الستار (بعد مجيء نظام جديد يحل محل نظام قديم!!). ذلك حدث فى الثورات التى نستطيع رصدها فى الزمن القريب، سواء تلك التى نجحت فى بلوغ هدفها، أو التى فشلت. الثورة البلشفية كانت كذلك. أمة مستعبدة لقيصر مستبد، وفكرة الشيوعية تطرح نفسها، ثم حلم موعود. وهناك حزب منظم يقوده "لينين"، وطلائع ثورية معه، وهم يستولون على السلطة، والقيصر يسقط ومعه كل أسرته (أسرة "رومانوف")، والنخبة القائدة (الحزب الشيوعي) تدخل بأفكارها ونظرياتها لكى تحكم. ذلك أيضا وقع فى الثورة الإسلامية فى "إيران". الشعب الإيرانى غاضب من نظام "الشاه"، و"آية الله الخميني" يقود ثورة تطيح بأسرة "بهلوي"، و"الخميني" يتقدم للسلطة بمرجعية الإمام الغائب، وتقوم الجمهورية الثورية الإسلامية على أنقاض عرش الشاهنشاه (ملك الملوك!!). عندنا فى مصر مثال قريب من هذا النوع، هو ثورة 23 يوليو 1952. شعب غاضب – شباب من الجيش يقودون حركة عصيان – الملك "فاروق" يخرج ومعه أسرة "محمد علي" – روح الثورة تصنع زعامة وطنية ضد قوى الاحتلال حتى تفرض عليها الجلاء – وبقرار "جمال عبد الناصر" تأميم قناة السويس تكتمل دائرة الثورة. الدورة كاملة، وهى طبيعية حتى فى أحوال تسارع حركتها أو تصاعدها إلى درجة العنف، تبقى الدائرة موصولة: لها بداية - لها ذروة - لها نهاية!! إذن فى إطار "الدورة الكاملة" التى تتحدثون عنها, ماهو موقع المشهد فى مصر من تلك الدورة؟ تعال الآن إلى "حالة الثورة".. "حالة الثورة" نفس النوع ولكن فصيلة مستجدة جاءت بها تطورات العصور!! "حالة الثورة".. رفض وتمرد على وضع قائم وغير قابل للاستمرار، وحركة متدافعة، وسلطة قديمة تسقط، لكنه برغم الحركة الجارفة للجماهير وهديرها، فإنه ليست هناك فكرة جامعة تحشد للمستقبل، وليست هناك قيادة مُعترف بها تقود الحشد وتوجهه، وإنما هناك فراغ يمنع الدائرة من أن تكتمل. الفراغ فى بعض اللحظات يدعو جماعات وتنظيمات وحتى أفرادا – إلى الساحة أو اقتحامها أو التسلل إليها، لكنهم ليسوا من معدن الحدث، ولا من طبيعته، وكذلك تبقى الدائرة مفتوحة ولا تتصل، لأن الحركة انفجرت قبل أن تجد فكرتها، وقبل أن تجد قيادة تعبِّر عن سلطتها وتقيم نظامها. وذلك بالضبط ما جرى فى مصر – الثورة طلب للتغيير بلا تصور يجسد طموحه، وبلا قيادة تمثل شرعيته. الأحزاب القديمة الموجودة على الساحة لا تملك فرصة ملء الفراغ، لأن الزمن تجاوزها وابتعد. وهناك تيار إسلامى لا يستطيع هو الآخر ملء الفراغ، لأنه بالطبيعة تيار محافظ، وتناقضات التاريخ البعيد بما فيها صراع المذاهب تسكنه، والثورة بالضرورة حدث جديد آن أوانه، وحركة مستقبل لم يعد قابلا للحل إلا بوسائط العلم، وكذلك تبقى الإشكالية دون حل. فى ظرف "الثورة": هناك سؤال وهناك جواب. وفى ظرف "حالة الثورة": هناك أسئلة، وليست هناك إجابات، وهناك حركة ولكن هدفها يتعثر وهو حتى الآن لا يحقق وعده. هى إذن بدايات لا تلحقها نهايات. وكذلك فإن "حالة ثورة" – تواصل حركتها بالقلق وبالعصبية، وتكاد تُقارب الفوضى، أو تتحول بالفعل إلى فوضى، لأنها تدفق تلقائي، ليس لديه مسار معلوم، وليس فى آخره مصب معين!! لو كان التدفق تلقائيا ومسار المستقبل غير معلوم, نحن إذن أمام مأزق أو حالة من السيولة التى تحمل مخاطر جمة؟! أنت تسأل وأنا معك أسأل: أين المأزق؟! – ولماذا لا نصل؟! – ولماذا نطرح السؤال ولا نجد الجواب؟! – وهل هناك خطأ؟!! والرد: أنه ليس هناك خطأ، وإنما هى طبائع أشياء، أو بالتحديد طبائع عالم وعصر. متغيرات الزمن والعصر غيَّرت أشياء كثيرة مما عرفناه وألفناه. فى أزمنة مضت كان العالم دولا لها حدود سياسية معروفة، ولها سيادة على إقليم محدد، لكن هذا الوضع – سواء اعترفنا أو أنكرنا – لم يعد موجودا. الأمر الواقع الآن أن العالم كله حاضر ونافذ فى كل بلد.. داخله.. فى قلبه.. فاعل مؤثر فيه ومن داخله!! العصر كذلك قادر على اكتساح الخطوط والحدود بوسائل لم تكن تخطر على بال، كنا دائما نتحدث عن ثورة الاتصالات، لكننا لم نتصور أن ثورة الاتصالات سوف تنفذ إلى عمق حياتنا، بل وإلى عمق العمق من حياتنا. وسائل الاتصال الاجتماعى جعلت قضية الرفض والتمرد حركة عالمية عابرة للقارات، فهناك أجيال من الشباب فى العالم ترفض أن تقودها رموز مراحل سبقت من بقايا الحرب الباردة، ومن بقايا المذاهب المتعددة التى شاركت فى صراعات الحرب الباردة، أو حتى مما تلا الحرب الباردة من انتفاضات مثل ربيع براغ، وربيع وارسو، فكل تلك المراحل فى رأى أجيال الشباب أشباح من الماضي، لكنهم أمام حاضر مليء بالاحتمالات، ومستقبل مفتوح على الآفاق، وهم جميعا يطلبون حلما لم يتحقق بعد، ولكنهم يطلبون وبمثالية تصل إلى حد العدمية أحيانا!! الفراغ إذن مستمر، والدوامات الداخلة إليه تلف به إلى درجة تدعو للدوار، والفراغ مفتوح كذلك على الخارج، والخارج على استعداد لأن يدخل إلى العمق داخله – إلى عمق الأوطان، والفراغ يتسع أو يضيق بمقدار درجة التقدم فى أى بلد، فمع حركة التقدم يضيق الفراغ، ومع جمود التخلف تزيد الفجوة!! ماذا عن التداخلات والضغوط.. وذلك العالم المعقد الذى يحيط بالثورات فى عالم اليوم – والحالة المصرية ماثلة أمامنا؟ كانت هناك – فيما عرفنا من تجارب – احتمالات معروفة لما تستطيع قوى العالم فعله إزاء أى أوضاع لا ترضى بها فى بلد من البلدان، أو إذا وقع نزاع وصراع مع هذا البلد. - كانت هناك إمكانية تدخل فى شئون ذلك البلد بالدعاية والتشويه والتشهير أو غيرها من ضروب الحرب النفسية. - وكانت هناك احتمالات ضغوط اقتصادية وسياسية يمكن أن تصل إلى حد المقاطعة والملاحقة!! - وكانت هناك ظلال تهديدات عسكرية تلوِّح بالسلاح ضده وبالغزو. ذلك ما عرفناه من إمكانية تدخل وتداخل العالم والعصر فى الشأن الداخلى لأى بلد سواء مكشوف بفراغ. التدخل وإمكانياته واحتمالاته وظلاله، تجرى من الخارج – من خارج حدود هذا البلد. لكن التدخُّل الآن نافذ وعميق، يدخل بهما العالم والعصر إلى قلب أى بلد تظهر فيه ثغرة فراغ. يدخل إلى أهله فى غرف نومهم. يؤثر على طعامهم وشرابهم، واصل إلى عقولهم وعقول أبنائهم والمحيطين بهم. نافذ إلى الرأى العام فى هذا البلد وعلى اتساع رقعته. فى المواجهات السابقة كانت الضغوط كلها من الخارج، ابتداءً من الضغوط النفسية – إلى الضغوط الاقتصادية – إلى التهديد بالسلاح.. والآن اختلفت الوسائل، وفى الوسائل الجديدة فإن الضغوط تتولد من الداخل، وتتركز على مواقع التأثير، وتبحث عن عناصر تتلاقى مع وسائلها، والضغوط لها فعل الزلازل ترج وتهز وتكسر، وتؤجج التناقضات الداخلية حتى وإن وصلت إلى حد الحرب الأهلية. إذن... نحن أمام منظومة معقدة تسمى "ثورة"؟! هناك معضلة تتصل بعلم الثورة فى حد ذاته، وقد أصبح بالفعل علما مستقلا ضمن منظومة العلوم السياسية. هناك متغيرات كبرى لحقت بقضية الثورة فى حد ذاتها. فيما مضى كانت للثورة أوصاف ومواصفات معروفة. الثورة الفرنسية أم الثورات الحديثة كانت ضد الملك وأمراء الإقطاع وسطوة الكنيسة، عبَّر عنها الزعيم الثورى الأكبر "روبسبير" بقوله: "إن الثورة لا تحقق مطلبها إلا إذا شنقنا آخر قسيس بأمعاء آخر أمير!!". الفكر الماركسى وهو دليل الثورات الحديثة كان يتحدث عن فائض القيمة، واستغلال البشر للبشر، وديكتاتورية الطبقة العاملة باعتبارها ديكتاتورية الأغلبية، والقطيعة الكاملة بين دولة الثورة وما بعدها – وضرورة تحطيم النظام السابق عليها، وملكية وسائل الإنتاج بتأميمها من الأرض إلى الصناعة إلى التجارة. هناك مستجدات كثيرة تغيرت، وقد زادت كمية المتغيرات على المستجدات، خصوصا بعد سقوط الاتحاد السوڤيتي، وكذلك بعد تجربة نمو الصين الأسطوري. بعد سقوط الاتحاد السوڤيتى – وحتى من قبل سقوطه – سقطت ديكتاتورية البروليتاريا لأربعة أسباب رئيسية: - أولا: ديكتاتورية الطبقة العاملة أصبحت فى الواقع ديكتاتورية بيروقراطية الحزب الشيوعي. - وثانيا: ملكية الدولة لوسائل الإنتاج عن طريق التأميم لم تثبت نجاحها، وإن ظلت مشاركة الدولة فى قيادة عملية الإنتاج لازمة، خصوصا فى العالم الثالث. - وثالثا: فإن فكرة الديكتاتورية نفسها سواء لطبقة أو لحزب لم تعد مقبولة، وحتى فى الدول الشيوعية السابقة فإن الاتجاه كاسح نحو التعددية الديمقراطية، وذلك نفى صريح لديكتاتورية الطبقة العاملة. - وأخيرا: فإن فكرة فائض القيمة وهى الأساس فى فكرة استغلال الإنسان للإنسان، أصابها نوع من الشرخ بسبب اختراقات تكنولوچيا العلوم، لأن التمكن من التكنولوچيا بالمعرفة، كما حدث مثلا مع أغنى أغنياء العالم وهو "بيل جيتس" فى شركة "مايكروسوفت" حقق ثروة طائلة دون استغلال الطبقة العاملة، و"بيل جيتس" مجرد نموذج وغيره آلاف، فالفكرة الجديدة الآن لدى رجل يمكن أن تكون مصدر ثروة خرافية له. هناك مشكلة أخرى كبيرة فى قضية الثورة، وهى أن وسائل الإعلام الحديثة ألغت تقريبا دور الأحزاب السياسية المعبِّرة عن الطبقات الاجتماعية كما كان الحال سابقا. ثم إن القادة الجُدد لم يعودوا نفس العقائديين الكبار، وإنما هم النجوم اللامعة فى سماء الحياة العامة. الرئيس "كنيدي" فى أمريكا مثال، كانت "الصورة" هى التى صنعته وليس الحزب الديمقراطى الذى اختاره مرشحا له من خارج السياق الحزبي. أكثر من ذلك فإن السياق الحزبى لم يفرز من القادة الناجحين إلا من استطاعوا أن يصلوا إلى درجة النجوم – "مرجريت تاتشر" فى "إنجلترا" نموذج!! "رونالد ريجان" نفس الشيء، نجم قام بدور الرئيس – "باراك أوباما" نفس الشيء أيضا، رجل من خارج السياق ليقنع العالم أن أمريكا تغيرت!! حتى الديمقراطية التعددية التى حلت محل ديكتاتورية الطبقة العاملة، وعمادها المعارك الانتخابية أصبحت تحتاج إلى أموال طائلة، والأموال الطائلة عدو طبيعى للثورة من الأصل والأساس. لاحظ إلى جانب ذلك أن الصين وهى بلد مازال يحكمه حتى الآن حزب شيوعى قوى – هو نفسه البلد الذى يضم أكبر عدد من أصحاب البلايين فى العالم!! – أليست هذه بالمقاييس الطبيعية للثورة الشيوعية ظاهرة متناقضة بالكامل مع "ماركس" و"لينين" و"ماوتسى تونج"؟!! ما أريد قوله باختصار أن قضية الثورة فى حد ذاتها لم تعد تلك التصورات المعروفة والمحددة فى الأدبيات الشائعة، وإنما هناك مستجدات أتت بها أحوال جديدة مازالت تفور.. مازالت تتفاعل.. مازالت تغلى فى الدنيا كلها، كما عندنا!! هذه المستجدات مما عرضته كله من إشكاليات الثورة وقضاياها – أضاعت قدرة أى بلد مستهدف على إدارة شأنه الداخلي، وأصابت استقلال قراره، وعطلت دولته بمصاعب تزيد وطأتها، والمجتمع مهدد بالانفراط فى غيبة دولة تحمى تماسكه. وهذا البلد المكشوف يواجه حالة سيولة تصبح قابلة للاستمرار دون حسم، فهى لا تتحول إلى دورة كاملة متصلة لها بداية ولها ذروة ولها نهاية. وفى حلقة لا تكتمل، فإن الدائرة تظل مفتوحة لثغرة أو ثغرات. وإذن نحن هنا أمام لحظات خطر فى حياة الأمم – تتبدى فيها مخاطر حياة بلا سقف، ولا أرض، ولفترة قد تطول. هل وصلنا لمنحنى خطر؟! أريد أن أضيف أن "حالة الثورة" كما عرضت لظروفها ومخاطرها ليست عقيمة إلى الدرجة التى تخطر على البال لأول وهلة. هى لحظة انكشاف وخطر – صحيح، لكنها أيضا وحتى فى ظروف ما قد نعتبره انفلاتا وفوضى – تحقق فى وسط الزحام والتدافع والقيام والوقوع، ما يمكن اعتباره عملية فرز واختيار، وقبول وعدول، واختبار وامتحان. خذ ما حدث فى الحالة الثورية التى عاشتها مصر من 25 يناير 2011، وما نحاول النظر إليه بأكثر مما يبدو على السطح فيه.. ما جرى هو أن الشعب المصرى من خلال القلق فى البحث عن المستقبل، أجرى – حتى دون قصد – عملية فحص ودرس شديدة الأهمية، وهذه العملية أظهرت لديه أشياء، وأنكرت أشياء غيرها: - مناخ الفوران فى "مصر" أظهر مثلا أن قوى الجماهير عنصر أساسى فى المعادلة الوطنية، وفعلها مؤثر، وتجاهله خطر، لأن هذا الحضور لهذه القوى فى المشهد العام أحدث فارقا يدعو الجميع إلى الحذر فى التصرفات، ويمهِّد لمشاركة من نوع ما، وذلك فى حد ذاته إيجابي. - مناخ الفوران أظهر أن البلد لا يريد حكما تسلطيا، وهذا ظاهر لا يحتمل الالتباس. - مناخ الفوران أظهر أن الادعاء بالدين لا يكفى غطاءً لحقائق دنيوية، اقتصادية اجتماعية وفكرية. - مناخ الفوران أظهر أن الأزمة أكبر من الحلول السريعة المسكِّنة. - مناخ الفوران أظهر أيضا أن ما يجرى فى أى بلد أعقد من اعتباره شأنا محليا يخصه وحده، أو يمكن التغطية عليه بأى وسيلة، مهما تنوعت الأساليب، وذلك فى حد ذاته، وبصرف النظر عن تعقيداته – تنبيه قوى بأن تظل التصرفات فى إطار ما يمكن شرحه للجميع والدفاع عنه. وتلك كلها إيجابيات أُضيفت إلى الحياة السياسية المصرية خلال فترة صعبة من البحث والتفتيش عن بداية جديدة لمستقبل مختلف فى "مصر". وهكذا فإن ما يتصوره بعضنا فوضى مطلقة أظهر أن له إيجابيات أكيدة، تساعد – كما قلت بالفرز – على سلامة الاختيار!! بالفعل هناك سؤال بلا جواب، لكن الحركة الهادرة تركت على الأرض شواهد إيجابية تدعو إلى النظر – تدعو إلى البحث – تدعو إلى اليقظة، وهى تطرح المقاصد وتؤكدها من خلال عرض أحوالها!! الفوران فى تلك الحالة يبعث طاقة إيجابية فى شرايين الثورة ولايعنى المشهد بالضرورة الاستسلام لحالة نفسية قاتمة! لكى أشرح لك ما أتصوره فى "حالة الثورة" من منظور مختلف – دعنى ألفت نظرك إلى أن المسألة ذاتها جرت وبنفس مستجدات العصور فى الأدب والفن، كما فى قضايا السياسة، وضمنها قضية الثورة.. نهايات تظل عالقة لبعض الوقت، أعمال أدبية وفنية بغير نهايات تقليدية، تترك الدوائر مفتوحة ولا تقفل الدائرة عليها. فى الأدب والفن خذ الرواية المسرحية مثلا. أنت تذكر مسرحية فى "انتظار جودو" ل "صمويل بيكيت" – أليس صحيحا أنها بلا بداية، بلا ذروة، بلا نهاية. المسرحية من لحظة رفع الستار حتى نزولها، رجل واحد جالس على مقعد، يفكر فى شيء ينتظره، وهذا الشيء لا يجيء، والرجل يحاور نفسه بصوت عالٍ يرتفع بالصياح، وينخفض بالهمس فى بعض المواضع، وهو بمفرده على المسرح، مربوط إلى مقعده. هذه ليست مسرحية ولا قصة على النحو الذى كنا نعرفه من "فلوبير" إلى "تشيكوف" – ومن "هيكل" (باشا) إلى "نجيب محفوظ". عند هؤلاء جميعا كانت القصة خطا متصلا، سياق له بداية وله ذروة أو عقدة أو حبكة – وله نهاية وله خاتمة، أو لحظة نزول ستار. الآن اختلف الوضع. ما رأيناه ونحن نشاهد رواية "فى انتظار جودو" هو بطل فى "حالة شك". فى الموسم المسرحى الأخير فى لندن شاهدت مسرحيتين، مسرحية "الملكة" التى قدمتها الفنانة الرائعة "هيلين ميرين"، يلفت النظر أن المسرحية كلها عرض لعشر مقابلات بين ملكة "إنجلترا"، وبين كل رؤساء الوزارات فى عهدها، من "ونستون تشرشل" (رئيس وزرائها الأسطوري) – إلى "داڤيد كاميرون" (رئيس الوزراء الحالى دون أساطير). حوارات الملكة مع رؤساء وزاراتها تمس شواغل "بريطانيا" السياسية على اتصال أكثر من ستين سنة. هى ليست قصة، وليست مسرحية. وإنما هى "حالة".. "حالة سياسة".. بلا بداية، بلا ذروة، بلا نهاية. "حالة".. مثل "حالة الثورة" تماما. المسرحية الثانية التى شاهدتها فى الموسم الأخير اسمها "تشيمريكا" وهو لفظ يجمع بين اسم "الصين"، واسم "أمريكا"، والمسرحية عن قضية العلاقات المتشابكة بين "الولاياتالمتحدةالأمريكية" وبين "الصين". والمسرحية استعراض للعلاقات بينهما.. بلدان فى مجال القوة، أحدها يبدو نازلا عن عرشه، والآخر يبدو مترددا أمام العرش، ويخشى أن يصعد إليه، على فرض أنه فى هذه اللحظة يقدر. هذه أيضا ليست قصة ولا مسرحية بالمعنى المتعارف عليه تقليديا. هذه "حالة بحث عن الآخر" وليست مسرحية لها فكرة، ولها بطل، ولها عقدة أو حبكة، أو نهاية. هناك شيء جديد طارئ.. علينا أن نضعه فى فكرنا، ونحن نبحث عن حقيقة ما جرى فى "مصر"، ويدعونا إلى القلق لأننا لا نرى نهايات نتوقعها، لبدايات رأيناها. لنا أن نسأل: ما الذى جرى؟!! كان هناك سخط يتنامى إلى درجة الغضب من نظام "مبارك". وكان هناك رفض لفساد واستغلال تفشى فى زمانه. وكان هناك ترهل إزاء التدخل الأجنبي، وصل بمصر إلى درجة الأمر والإملاء، خصوصا من جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكان هناك انعزال عن الإقليم، وفى نفس الوقت توظيف للدور المصرى فى الإقليم أفقدت هذا الدور جاذبيته. وغَضِبَ الناس وكان لابد أن يغضبوا، وتَمرَّد الناس وكان لابد أن يتمردوا. لكن الحكم المتسلط لم يترك للقوى السياسية فرصة أن تتجمع، وبقيت هذه القوى شظايا متناثرة. وفى نفس الوقت فإن التنظيمات السياسية التقليدية عجزت لأنها – بالحصار من حولها، وبالقصور عن فهم متغيرات العصور – لم تعد قادرة على طرح يقنع الناس لا بفكرها ولا بفعلها. وفى نفس الوقت فإن وسائل العصر تحولت إلى عملية اجتياح بظهور الإنترنت ومشتقاتها من الرسائل الإلكترونية، والصور والأفلام التى لا تحفظ سرا، ولا تنتظر تدقيقا أو تحليلا، وإنما كله موجات غاضبة متلاحقة، "تسونامي" يجرف كل شيء أمامه. فى وقت من الأوقات كانت الأحزاب تتحدث إلى طبقات: طبقة عاملة تخاطبها الأحزاب الشيوعية – أو طبقة متوسطة تخاطبها الأحزاب الليبرالية – أو طبقة تقليدية تخاطبها الأحزاب اليمينية. والآن تغير كل شيء، فقد نزل الطوفان على الجميع وبوسائل مستجدة، إلى جانب وسائل سبقت مثل الصحافة والإذاعة والتليفزيون. أصبح الخطاب السياسى وحتى الدعوى والأخلاقى والتحريضى والقتالي، واصلا إلى كل عقل وفكر وأعصاب، فى نفس اللحظة. كيف إذن توصف مشهد ما بعد 25 يناير فى ظل كل الاعتبارات والمسارات السابقة؟ ظروف 25 يناير نموذج حى ل "حالة الثورة". انفجار مستحق على حكم ضاع منه الصلاح والصلاحية، وطلب التغيير الثورى دائم، والنتائج غير محددة، لأن العالم اتسع، والحركة تتسع مع اتساعه، والحلول ليست عقدة نفكها ثم ينزل الستار، ويذهب كل واحد إلى بيته: الأبطال والمتفرجون وعُمال المسرح – هذا لم يعد صحيحا ولا دقيقا ولا كافيا. وذلك هو ما غاب عن كل الأطراف التى كان عليها تصريف الأمور بعد يناير 2011. لا أعرف إذا كنت قد استطعت أن أشرح لك ما أفكر فيه، ولكن ما أقوله باختصار أن التفكير بالأساليب القديمة لم ينفع ولن ينفع. نحن أمام سؤال عن المستقبل غير محدد، والسائلون هم الشعب بأكمله، بل وأتجاوز وأقول أمة بأسرها. وليس هناك جواب قاطع بالضرورة، لأنه ليس هناك سؤال محدد، ولا مسئول معروف!! ما هو الممكن فى هذه الأحوال،؟! الممكن فى ظنى هو أولا محاولة تفهم "حالة الثورة"، وساحتها الواسعة، وطبيعتها المختلفة. والخطوة التالية نحو الحل.. نحو إمكانية الحل هى تحديد مجالات ومسارات وملفات على رقعتها، تصب فيها روافد السيل الثورى الذى لا يتوقف عن الزحف. والخطوة الثالثة تتبُّع كل مجال ومسار وملف، وملاحقته، والتصرف حياله. - هناك مسار اجتماعى فى بلد تردت أحواله وزادت فيه فوارق الثروة (وهذه ظاهرة واقعة فى "أمريكا" و"إنجلترا"، لكنها فى مصر تصل إلى حد البذاءة). - وهناك مسار اقتصادى لبلد تعرَّض للنهب بأكثر مما علا فيه العمران. - وهناك مسار علمى وتعليمى فى بلد خرجت جامعاته من قوائم التصنيف العالمى للعالم المتقدم. - وهناك مسار فكرى وثقافي، دينى وإنساني، شاع فيه الخلط والتبست القيم، وضاعت الحدود بين الأصول والفروع، وبين الدنيا والآخرة، وبين الفوضى والأمل!! ولولا أن القوات المسلحة المصرية تحملت مسئولية حماية حركة الجماهير، حتى وإن لم تستطع توصيفها بدقة، لوصلت الأمور فى "مصر" إلى ما وصلت إليه فى بلدان عربية حولها، وما يمكن أن تصل إليه فى أى مكان فى العالم العربى دون استثناء!! ومن الغريب أن جماهير الشعب فى "مصر" وبحماسة التجربة التاريخية الطويلة – راحت تطالب وتسعى فى طلب سلطة قوية، سلطة تستوعب ضرورات التغيير، وتفهم دواعى "حالة الثورة"، وتقدر أن تحمى المسيرة، وتقدر أن تفتح المسارات إلى المستقبل، واعية بأن الحركة إلى وراء مستحيلة، وأن الوقوف فى المكان هو الآخر مستحيل!! وربما أن جماهير الشعب المصرى أدركت بالحِس قبل الفكر أن الطوفان لا يمكن صده فى هذا الزمن الحديث، وإنما يمكن تنظيمه وفتح مسارات ومسالك أمامه تستوعب تدفقه وتستفيد منه، تماما كما كان المصرى القديم يفعل مع الفيضان، يفتح له الضفاف حتى يدخل إلى الأرض المحروثة، التى تناثرت عليها بذور الخصب، ثم يتناقص طوفان الفيضان وتتشرب الأرض الطيبة بفيضه، وحين يجف الماء تظهر الخضرة الجديدة تتلقى ضوء الشمس. إننى أطلت فى محاولة شرح "حالة الثورة" فى الزمن الحديث، لكنى تصورت أن أفتح باب الاجتهاد فى أحوال عالمية وإقليمية ووطنية مختلفة فى كل ما نرى، وهى حالة تفرض علينا أن نعرف أكثر أن القصة ليست لها خاتمة سريعة وسعيدة، كما كان الحال فيما نسميه أحيانا: "الزمن الجميل"!! إننى تكلَّمت فى مجال الأفكار أكثر مما هو لازم، وربما بأكثر مما هو ضروري، ولكنى حاولت شرح أحوال، حاولت أن أشرح بالتحديد أنها "حالة ثورة" – فصيلة جديدة من نوع الثورة!!. دعنا الآن أن نعود إلى الواقع إذا أردت!! دعنا ننزل من سماء الأفكار التى أثقلنا بها على الناس – إلى تضاريس الأرض، تضاريس السياسة فى مصر هذه اللحظة!!