منذ سنوات طويلة أخذت عهداً على نفسى، وما زلت وفياً له، وهو ألا أشاهد مبارة كرة قدم يكون فريق مصرى مشاركاً فيها أمام فرق من بلاد أخرى، وأظل أتابع صوت الشارع فإذا حدثت ضجة أعرف أن هناك تحسناً، أو أن هناك هدفاً سجله فريقنا القومى العزيز، وإذا لم يحدث وساد الصمت العميق فأعرف أن هناك تدهوراً، وعلى أى حال فإنى بعدها بساعة أو ساعتين أعرف من وسائط الإعلام النتيجة، وبذلك أكون قد ريحت أعصابى، إذ ما معنى أن تحترق أعصابى فى انتظار فوز غير مؤكد، ومتابعة فرقنا القومية وأدائها المتذبذب ويخضع للصدفة وقوانين الطفرات الاستثنائية، إن المصريين يعشقون كرة القدم ويتمنون أن تحصد لهم فرقهم القومية البطولات وحلمنا أن نصعد لكأس العالم للكبار دون الدخول فى حسابات رياضية يقف أمامها جهابذة الحساب حيارى، وتتضاءل أمام تلك المعضلات خبرات خبراء حسبة برما. هذا أمر، أما الأمر الآخر فهو أن هذا التعلق الغريب يحتاج أن يقع تحت مظلة الفحص العلمى، فهو طريقة نفسية وبحث عن معنى الجدارة، وآسف إذا قلت إن الفرحة الهستيرية والمبالغة فى التعبير عن السعادة بالانتصارات فى كرة القدم هى فرحة يجب أن تخضع للدراسة والتفسير، وأأمل ألا تكون بالفعل ظاهرة مرضية، تعبرعن حالة اختناق شديد، وتعبر عن ملكات للشعب مبتورة، لا تستطيع أن تظهر ذاتها القومية عبر مشروع قومى أو فريق عمل يتناسى مصالحة الفردية الضيقة، أو يقهر نوازع التكالب العنيف التى استشرت فى مجتمعنا اليوم، إننى أؤمن إيماناً جازماً لا يتزعزع همسة أو أدنى منها أن المصريين هم (خير أجناد الأرض)، وكيف لا والقائل هو الصادق المصدوق (عليه الصلاة والسلام)، وأن لديهم طاقات هائلة، ولا أقول ذلك ليس من باب نظرية الاستعلاء العنصرى، بل هى حقيقة أكدها النص الشريف، إن المصرى هو ثروة قومية لا تقدر بثمن متى عرف ما لديه ومتى اتبع أساليب علمية ومتى تخلى عن الفردية المقيتة. أذكر أن من شواهد عصرنا الصفرى، الذى نحياه، أن صحيفة حكومية نشرت نصاً غريباً، بل ويدخل فى باب الطرائف من أوسع باب، وذلك فى باب المفاضلة بين مصر وجنوب أفريقا لدى التسابق لتنظيم كأس العالم العام القادم، قالت الصحيفة حينها، إن التاريخ بجوار مصر لعراقتها وأصالتها التاريخية (لئن فخرت بآباء ذوى حسب *** صدقت ولكن بئس من ولدوا) وأن جنوب أفريقيا لا تتفوق علينا إلا وفقط (لاحظ مفردة فقط) فى البنية الأساسية من مطارات ومنشآت رياضية وطرق.. إلخ!!!، ومن عادتى أنه لدى أرشيف من القصاصات الصحفية التى تشدنى، ولم أندم فيما يتصل بهذا الأرشيف أكثر من ندمى عن عدم احتفاظى بهذا النص الطريف حتى أنقله لحضراتكم حرفيا (ولا أعرف حتى الآن كيف حدث هذا؟) إن طريق الانتصار فى أى مجال ومن ضمنه المجال الكروى يحتاج إلى منظومة متكاملة من المناخ المجتمعى المحفز، ومن البرامج والقواعد والتفعيل العلمى الدقيق، وأيضاً البذل الكبير والإخلاص والروح المعنوية التى يتم بثها أيضاً بأسلوب علمى ومن خلال تجزير الانتماء لبلدنا الحبيب والغالى علينا جدا خارج إطار مقولة: "لا يوجد بلد خير من بلد خير البلاد ما حملك" ولعلى أتم وخير البلاد ما وجدت فيه إنسانيتك، كما قال الشاعر أحمد مطر: (أبى الوطن.. أمى الوطن.. رائدنا حب الوطن.. نموت كى يحيا الوطن.. يا سيدى انفلقت حتى لم يعد.. للفلق فى رأسى وطن.. ولم يعد لدى الوطن من وطن يأويه فى هذا الوطن.. أى وطن؟.. الوطن المنفي.. أم الرهين الممتهن؟.. أم سجننا المسجون خارج الزمن؟!.. نموت كى يحيا الوطن.. كيف يموت ميت؟.. وكيف يحيا من أندفن؟!.. نموت كى يحيا الوطن.. كلا.. سلمت للوطن.. خذه.. وأعطنى به صوتاً أسميه الوطن.. ثقباً بلا شمع أسميه الوطن.. قطرة إحساس أسميها الوطن.. كسرة تفكير بلا خوف أسميها الوطن.. يا سيدى خذه بلا شىء .. فقط خلصنى من هذا الوطن.. غن لم يكن بنا الوطن حرا آمنا.. فلا عشنا ولا عاش الوطن)، ورغم ما يبدو من جمال فنى ومنطق فى القصيدة، ومن قبلها من حكمة فى المقولة، فإنى أقول خير البلاد هى أوطانى، وليس هذا رطانة تحمل رداءة الدعاية السخيفة تتمسح بالوطنية والكلام الرنان بل هو معنى ما زلت أمسك بطرفه عله ينقذنى. وختاما أتوجه لحضراتكم بقصيدة طريفة للشاعر هاشم الرفاعى تلتقى مع صيحتى (لا تشاهدوا مباريات كرة القدم) علها تلقى البسمة على أفواه شعبنا عاشق كرة القدم، وعاشق أوطانه من أعماق قلبه: كانت الهزائم تتوالى على الفرق الرياضية بمعهد الزقازيق الدينى؛ فقد انهزم فريق كرة السلة، وانهزم فريق كرة القدم، فنظم الشاعر هذه القصيدة بعنوان "هزيمة": "تعالى" يا فريقُ هنا «تعالى» فدمُّكَ بيْننا أضْحى حلالا لمنْ أُهْدى القصيدةَ؟ لستُ أدري *** أأُهديها حبيباً أمْ هلالا؟ كلا البطليْنِ فرقتُهُ تبَارتْ *** فما ساوتْ لدى اللعْبِ العيالا لنا فى «الباسكتِ» اختاروا فريقاً *** يُحاكى فى ضخامتِهِ البغَالا وفى «الفوتبولِ» أفرادٌ تبَدَّوْا *** عِراضاً فى ملاعبِها طِوالا إذا ما صوّبوا كرةً يميناً *** لخيبةِ أمرهمْ طلعتْ شِمالا وليْس لهمْ بها علمٌ ولكِنْ *** خَدوها بالتلامةِ والرّذالا أيصلحُ للرياضةِ فيلُ قومٍ *** إذا ما سارَ تحسبُهُ الجبالا يُجركُ جسمهُ المكتظَّ لحماً *** ويحسبُ نفسَهُ فينا غَزالا إلى المحراثِ شدوهُمْ وإنى *** سأفتلُ كى نجرَّهمُ الحِبَالا ومن قصائده الساخرة أيضاً قصيدة "الخيبة الكبرى" التى نظمها وهو فى الثامنة عشرة من عمره (عام 1953م) حين هزم فريق معهده فى مباراة كرة قدم: يا خيْبةً قدّروها بالقناطيرِ جاءتْ لنَا فى نهارٍ كالدّياجيرِ إنى ذهبْتُ إلى النّادى فطالعَنى *** مقطِّبَ الوجْهِ مُغْبَرَّ الأساريرِ يبكى ويندبُ مَن خابوا بملْعبِهِ *** وفى المُباراةِ صاروا "كالطراطيرِ" من كلِّ «شحْطٍ» أطالَ اللهُ قامتَهُ *** يكادُ يصلُحُ فى جَرِّ "الحناطِيرِ" ما كانَ مُنتظَراً هذا المُصَابُ لكمْ *** يا فرقةً كوّنوها من "خناشِيرِ" ما للغبى و«للفوتبول» يلعبُها *** يا ليْتهمْ علَّقوكمْ فى الطّنابيرِ أخزاكمُ اللهُ قدْ جئتُم لمعهِدنا *** بالعارِ يا فتيةً مثلَ "المواجِيرِ" فى «الماتْشِ» لمْ تلْعبوا لكنْ رأيتكمو *** فى البُرتقالِ نزلْتُمْ كالمناشيرِ لو كنتُ أعلمُ أنَّ الخيبةَ انْقَسَمتْ *** منْ حظِّكمْ فى سِجلاّت المقاديرِ لكنتُ جئتُ بطبّالٍ يزفكمو *** ورحتُ أتلو على لحْن المزاميرِ "لا بأْسَ بالقوْمِ منْ طولٍ ومنْ غِلَظٍ *** جِسْمُ البِغالِ وأحْلامُ العصافيرِ"