برحيل الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم ليلة أمس، تكون حركة شعر العامية قد فقدت واحدًا من مبدعيها الأفذاذ، كما أن الحركة السياسية التقدمية قد خسرت مناضلاً من طراز فريد، استثمر موهبته الفنية فى فضح الديكتاتور والظالم والمستغل، بكسر الغين، فى الوقت الذى انحاز فيه إلى المقهور والمظلوم والمستغل بفتح الغين!. أجمل ما فى نجم أنه يشعرك بسلوكه الشخصى أنه ابن بار لهذه الأرض المصرية العفية، فملامح وجهه تشع بطيبة خاصة، ونبرة صوته ترتعش بالحنان، أما نظراته الذكية فتشى بأن طيبته تخفى فى ظلالها ذكاءً نادرًا واستثنائيًا، حتى جلبابه الشهير الذى يحرص على الظهور به يؤكد أن الرجل متصالح مع نفسه ومع عصره ومع سنه "هو من مواليد 1930". أما شعره فتفوح منه رائحة وطن وعبير أمة وأريج شعب، إذ لا يمكن أن تطالع إحدى قصائده دون أن يرتجف قلبك وتطرب روحك، لذا وجد شعره طريقه إلى الناس بكل يسر وسهولة، فنفذ إلى أرواحهم، وأشعل فى أفئدتهم قناديل الثورة والفرح. المثير للانتباه أن شاعرنا الراحل قد ذاق مرارة الاعتقال غير مرة، بسبب قصائده الساخنة ومواقفه السياسية المعارضة للاستبداد والقمع، لكنه لم يفقد أبدًا إيمانه ببسطاء هذا الوطن، ولم يتوقف لحظة فى الدفاع عن حق الشعب فى التمتع بالحرية والعيش فى ظلال العدالة الاجتماعية، الأمر الذى جعل أغنياته السياسية تنطلق من أفواه الملايين الذين أحبوه ورضوا به معبرًا عن أحلامهم وآمالهم، وقد أوتى أحمد فؤاد نجم حظاً كبيرًا حين أنعمت عليه المقادير بلقاء الموسيقار والمطرب المميز الشيخ أمام عيسى، فكوّن الاثنان -الشاعر والملحن المغنى- ثنائيًا فنيًا نادر المثال فى حياتنا الغنائية على مر العصور. بالنسبة لى هناك عدة قصائد لنجم تحتل فى قلبى أكرم ركن، ولا أتوقف عن استعادتها كلما تاقت نفسى إلى قراءة أو سماع شعر جميل وآسر، منها على سبيل المثال "مصر يا أما يا بهية" التى صارت أيقونة المصريين هنا وهناك، حيث يرددها الناس بإيقاعاتها الباذخة التى مزجها بروحه الشيخ إمام، فاستوت أغنية بالغة الرهافة والحيوية. كذلك قصيدته الموجعة "جيفارا مات" والتى يقول مطلعها "جيفارا مات.. آخر خبر فى الراديوهات.. وفى الكنايس والجوامع.. وفى الحوارى والشوارع.. وع القهاوى وع البارات.. جيفارا مات" إلى أن يهتف نجم ويصرخ الشيخ أمام معددًا "عينى عليه ساعة القضا من غير رفاقة تودعه.. يطلع أنينه للفضا يزعق ولا مين يسمعه.. يمكن صرخ من الألم من لسعة النار فى الحشا.. يمكن ضحك أو ابتسم أو انتشى" إلى آخر هذه القصيدة الدامعة والتى عجنها الشيخ أمام بموسيقاه الباذخة المعبرة بحق عن لوعة الفقد، تلك اللوعة التى اعترت جميع مناضلى العالم جرّاء الغدر بجيفارا واغتياله فى 9 أكتوبر 1967! لكن من أجمل وأرشق ما كتب نجم تلك القصيدة التى قالها فى رثاء جمال عبد الناصر بعد 15 سنة من رحيله، ونشرتها جريدة الأهالى سنة 1985 إذا لم تعاندنى الذاكرة، إذ أنه استطاع فى بيتين اثنين فقط أن يلخص تجربة الزعيم بشكل مذهل، وهو الذى كابد أهوال المعتقل فى زمنه، إليك هذان البيتان لتتأكد مما أقول: عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت أرأيت وعيًا ورقة وبلاغة أكثر من هذا؟ رحم الله شاعرنا الكبير.