قال وعيناه تتسعان: كل الخيوط فى يدى.. أرفع الناس وأنزلها، أعزها وأذلها. صوب نظرته تمامًا فى حدقتى محدثه وهو يروى: لم تكن المشكلة هناك، ولكن المشكلة هنا.. لقد راحت فيها رؤوس ورقاب.. نعم يا سيدى.. لقد كنت هناك حين وقعت الواقعة، وقلت لهم إنكم لم تستمعوا إلى نصائحى فحلت بكم اللعنة.. ويبدو أن بعضهم لم يكن يعرفنى، فتساءلوا وهم يبدون اندهاشهم من تواجدى فى هذا المكان الحساس.. قلت لهم كلمة واحدة: «أنا المخبر»، فاختفت ألسنتهم فى أفواههم المغلقة. اعتدل فى مقعده وهو يحاول أن يريح كرشه المنفوخ، ثم أشار إلى رأسه بسبابته قائلاً: أنا أعتمد تمامًا على نفسى.. لم أسع إلى أى منصب، ولكن الدنيا كلها كانت تأتى إلىّ دون طلب.. أنا لا أريد شيئًا سوى أن أكون «المخبر».. شعور هائل بالسلطة ينفخه كبرميل أجوف، يتحدث بثقة مطلقة تكشف بسهولة عن جهل مطلق، يسير مختالاً متعاجبًا وهو يقسم للناس أن أكثر ما يميزه هو التواضع، وفى أعماقه ما يكشفه لأحد أصدقائه: أخشى من اليوم المحتوم الذى ستزول فيه سلطاتى، أنا مرعوب من لحظة المعاش وكأنها لحظة الموت، وربما تكون الموت فعلا.. فمن أجل عملى النبيل أصبح لى أعداء فى كل مكان لا أستطيع حصرهم أو تحديدهم، إنهم فى مكان ما ينتظرون لحظة انقشاع أضواء السلطة من حولى، وحينها وفى ظلام المعاش البارد قد ينقضون كالذئاب الجائعة.. لكننى على أى حال راضٍ بإنجازاتى. يتنهد قبل أن يتلفت حوله بحرص، ثم ينحنى على أذن صديقه هامسًا: بالطبع أؤمن نفسى.. فهؤلاء الذين ينتظرون سقوطى أقوم بتدميرهم تمامًا، أو أبذل ما فى استطاعتى كى ألوثهم فلا تقوم لهم قائمة مرة أخرى.. إن الشيطان نفسه يعجز عن حيلى. نهض وسار مختالاً متعاجبًا، وهو يصوب عينيه ذات اليمين وذات الشمال فترتعد فرائص البسطاء، يسارعون بخطواتهم كى يتواروا عن عينيه، ولكنهم يشعرون به خلفهم تماماً، تلفح أنفاسه أقفيتهم، يوسوس فى آذانهم بفحيح نبراته الآمرة الناهية، يقول لهم بصوت خشن أجش: أنا خلفكم أينما كنتم، مثل ملك فوق أكتافكم أسجل أنفاسكم وهفواتكم الصغيرة والكبيرة، ويوم الحساب آت يا من ظننتم أنكم تملكون محاسبتى، أنا من طينة أخرى غيركم، خلقت كى أركب فوق ظهوركم كى أحميكم، وإياكم أن تفكروا مرة أخرى فى التمرد على أقداركم. تتصاعد صرخات وتأوهات من حدود المدينة، يبتلع الرجال ما تبقى من مظاهر الذكورة، ويسارعون بإغلاق الأبواب بإحكام وهم ينظرون إلى زوجاتهم بخجل، وعندما يتصايح الأطفال بأغنيات الحرية، يصرخون فيهم بالصمت لأن الجدران لها آذان.. وخلف النافذة يمر شبح «البصاص» متعملقًا، فيتقزم الرجال وتنتشر حالات التبول اللاإرادى.. تنطفئ الأضواء فى كل بيوت المدينة، ينام الناس مع كوابيسهم، بينما «البصاص» لا ينام فهو خلف كل باب، تحت كل فراش، هو فى العقول والقلوب.