الدعوة لإصلاح الخطاب الدينى وما علق بصحيح الدين الإسلامى من شوائب لم تخل ممن يتبناها ويحمل لواءها على مر العصور، ولم تعدم فى الوقت نفسه من يتصدى لهؤلاء، ويحاول تشويه مسعاهم والنيل منهم بل والطعن فى دينهم وعقيدتهم، ليظل الأمر سجالا، لا يعدم هو الآخر من «متفرجين» لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وكأن الأمر لا يخصهم، أو كأنهم ينتظرون انتصار أى الفريقين للسير فى ركابه، فى مسيرة الأزهر سنجد ان القرضاوى «أزهرى».. مفتى الإخوان «أزهرى».. وخطباء التطرف فى المساجد «أزهريون»، ولنبدأ القصة من أولها. على مر العصور ومنذ وفاة نبى الدعوة محمد صلى الله عليه وسلم كان هناك من يحذر من أن تؤثر الخلافات المذهبية والتعصب الطائفى والعادات والتقاليد فى المجتمع الإسلامى، وما ورثه عن مجتمعات سابقة فى الزج بأفكار دخيلة على الإسلام، وحين دخل الصراع السياسى من الباب، ظل هؤلاء يضعون أيديهم على قلوبهم، ويقبضون بالجمر على ما يعرفون من صحيح الدين، أملاً فى أن يواصل آخرون السير فى طريق الاجتهاد والدفاع عن صحيح الدين وتنقية ما ظل يعلق به من شوائب حتى يومنا هذا. موسوعة التعريف الإلكترونية العالمية «ويكيبيديا» تؤرخ للحركة الإصلاحية فى كل من مصر والهند كبداية للحركة الإصلاحية فى العصر الحديث، وتقول إنها كانت واحدة من العديد من الحركات مثل العلمانية والإسلاموية والسلفية التى ظهرت فى منتصف القرن التاسع عشر فى ردة فعل للتغيرات السريعة فى ذلك الوقت كالاستعمار فى العالم الإسلامى. فى هذه المرحلة بدا أن هناك التفاتا يتزايد من قبل عدد من علماء الدين المسلمين إلى أن واقع المسلمين المتخلف يعود إلى حالة الجمود والركود فى الحياة الاجتماعية والدينية، لتنقسم الآراء بشأن مواجهة هذا الموقف بين فريق اختار التوجه لتبنى نظريات الغرب العلمانية وعلى رأسها فصل الدين عن الدولة، فيما تبنى الفريق الآخر التأكيد على أن دعوة الإسلام لا تتعارض مع التقدم، وأن الخروج من التخلف فى العالم الإسلامى لا يحتاج فى هذا الشأن سوى لتنقية ما علق بالدعوة على مر سنواتها الماضية من أفكار دخيلة ووضعيات اجتماعية معينة، وما لحق بها من بدع وخرافات، وما تدخلت يد الصراعات السياسية لزجه بين طيات الدعوة، وجاء على رأس هذا الفريق جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، حيث تبنى الأخير الدعوة إلى إصلاح الخطاب الدينى والمؤسسة الأزهرية فى القلب منه عبر تكوين أجيال تحمل الدعوة وتنشر التربية الإسلامية. وفى درب الإمام محمد عبده سار أيضاً رشيد رضاً، وهما يتبنيان الدعوة للدفاع عن الإسلام وتحديثه لمواكبة المؤسسات الغربية، ونشر مجموعة واسعة من المعرفة الإسلامية التى كانت قد تراكمت فى سياق مختلف فى القرن التاسع عشر. وداخل مدرسة الإصلاح هذه التى امتدت بين مصر وبلاد المسلمين فى آسيا، تعددت رؤى الإصلاحيين حول طرق إصلاح الخطاب الدينى وتنقيح الفقه والشريعة الإسلامية، وتبنى البعض الدعوة لتقييد الشريعة عن طريق استخدام القرآن والسنة النبوية الموثوق بها فقط والحد من الأحاديث الضعيفة والمتعصبة التى تعرضت إلى انتقادات كثيرة، بل ذهب الشيخ غلام أحمد برويز الباكستانى إلى أبعد من ذلك وقال إن القرآن والأحاديث التى تطابقه هما الشىء الوحيد الملزم، فيما دعا فريق أيضا إلى إعادة تفسير أكثر أو أقل تعصبية للمصادر الموثوقة. وفى كتاب له بعنوان: «محمد عبده.. قراءة جديدة فى خطاب الإصلاح الدينى» للباحث التونسى للدكتور محمد حداد، يؤكد المؤلف أن النصوص التى قدمها الإمام محمد عبده فى إطار دعوته الإصلاحية يجب أن ينظر إليها بوصفها نصوصاً مفتوحة، بتحليل النص بحسب المآل والمصير الذى آلت إليه الفهوم والنصوص اللاحقة به وليس حسب اللفظ والمعنى، وذلك للخروج من الشكلانية البنيوية إلى البنيوية التاريخية، مشيراً إلى أن التاريخ الإسلامى عانى دائماً من وجود مؤسسات تراقب المعرفة الدينية وتحتكرها، وتحاكم السلوك الفردى والجماعى لأجل نسف الوساطة، وأن إصلاحيا مثل محمد عبده وجد من يشكك فى ولائه الوطنى والدينى، ووصفه البعض بأنه جاوز بالعقل حده، وعدل بعقله الحقائق الشرعية من الحقيقة إلى المجاز، كما اتهمه سيد قطب بالإفراط بالعقلانية، وتحويل الحاكمية من الله إلى العقل البشرى، فيما وصفته جماعة «إخوان تونس» بأنه من بين «الشيوخ المغرر بهم غربياً»، فيما رأى المؤلف أن محمد عبده كان امتدادا لمدرسة «ابن سينا» ولم يكن من مرجعياته أبداً اجتهادات لشخصيات مثل ابن تيمية. على درب الدعاوى الإصلاحية تعددت الاجتهادات بشأن وضع «خارطة طريق» لتحقيق هدف الدفاع عن صحيح الدين وتنقية تراث الدعوة، وبحسب المفكر الدكتور جابر عصفور فإن الخطاب الدينى هو اجتهاد البشر حول النصوص الدينية، ومن ثم فهو إنجاز فكرى بشرى يجب أن يخضع للتأمل ووضعه موضع المساءلة وانتقاده لأنه قابل للخطأ والصواب، معتبراً أن الطريق لإصلاح ما علق بالدعوة من شوائب على مدار القرون الماضية يبدأ بإعادة العقلانية الإسلامية، وإرساء دعائم الدولة المدنية.