البحث عن المفقودين بعد أن قال رفاقهم، إنهم قضوا خلال الرحلة وتم إلقاء جثثهم فى البحر، انتشال جثث العشرات من المهاجرين غير الشرعيين غرق بهم المركب فى البحر، وفى حال الوصول إلى البر السجن فى المعسكرات، الترحيل، المعاملة غير الإنسانية.. ليست هذه أبيات شعرية فى ملحمة خيالية، ولكن جمل تتردد بشكل شبة منتظم فى الإعلام العربى والعالمى حتى أصبحنا معتادين سماعها، وعلى الرغم من ذلك هناك إقبال كبير على الفرار من أرض الوطن إلى حيث المجهول. ويبدأ المجهول بالكشف عن أحد أنيابه المرعبة فى المعيشة المزدرية للمهاجرين غير الشرعيين بالسكن والمعيشة والنوم بأعداد كبيرة فى مساحات ضيقة ثم عمل شاق لا يقبل به فى الغالب أبناء البلد الأصلين لمشقته مثل العمل فى الأراضى الوعرة وأعمال البناء والتكسير أو حمالين فى أسواق الخضر يبدأون عملهم فى الساعة 2 بعد منتصف الليل ولساعات طويلة يصل عددها 12-15 ساعة، هذا إن ووجد العمل من أساسه، أضف إلى ذلك ملاحقات البوليس فى الشوارع لكل من هو مهاجر غير شرعى، مما يجعل الإنسان فى حالة من الاضطراب العنيف نتيجة كل هذه الظروف المعيشية سواء فى المسكن أو العمل أو حتى أثناء السير فى الشارع. ويبقى مع ذلك كله المجهول متخفياً فلا يكشف عن وجهه مما يزيد من حالة الرعب ويجعل الشخص الواقع تحته تعيساً ولأبد الآبدين مهما جمع من ثروة فى رحلته تلك. على الرغم من كل تلك المآسى، فإننا ما زلنا نجد إقبالاً على القفز فى مراكب الموت والفرار من أرض الوطن.. فأين الخلل؟ لا يختلف اثنان على حقيقة مؤداها أن الأوضاع السيئة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً تأتى فى مقدمة أسباب تلك الموجات المتعاقبة من النزوح ذى الطابع الانتحارى، ولا يختلف معى أحد فى أن الحل هو التنمية والتنمية فقط إذ أن ازدهار الأوضاع فى الوطن يصرف الناس عن الهجرة إلى الغربة لا سيما الشعب المصرى الذى يصفه كل من تناول طبيعته التكوينية منذ القدم بأنه شعب موطنى لا يميل إلى الخروج من أرضه، بل هو من يجذب الآخر إلى أرضه وكأنه ينقل له هذا الانتماء الفطرى وشعور التواصل مع ترابه، فقال فيه هيرودوت قديماً "من شرب من ماء النيل فسيعود إليها ثانية" وحديثاً يصف الدكتور جمال حمدان فى كتابه شخصية الإنسان المصرى بأنه إنسان ميال لأرضه كثير الولاء إليها، وكذلك فإن الملاحظة اليومية تصادق ما قاله من قبل المؤرخون فى هذا الصدد، فالمصرى يخرج من أرضه للعمل ثم العودة بحصيلة ما جمع من مال ليبدأ حياته بين أهله فى مصر ويسمى سنوات بعده عن أرضه بالغربة وهذه الكلمة فى الأدب المصرى هى للتعبير عن العذاب والابتلاء والمكروه بل والشر أحياناً. فى حين أننا نجد أن أبناء جنسيات أخرى تخرج من بلدانها محملة بثقافة تغيير الجلد واللغة والثقافة واستيطان المجتمعات الأخرى بصورة نهائية مع تقطيع الأواصر الرابطة لها بأوطانها، ولكن هذا ليس حال المصرى بحال من الأحوال. فى ربيع عام 2008 بدأ الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى يسوق لفكرة الاتحاد من أجل المتوسط وكأنه يستعرض بحركات بهلوانية لعرض فكرة فطيرة سميتها آن ذاك فى أحد لقاءاتى على التليفزيون الفرنسى بأنها فطيرة الشكولاتة المحشوة بسمك الفسيخ المعفن المملح "مع اعتذارى لكل من اشمئز من هذا المثال وأولهم أمى الحبيبة التى كانت تتابع البرنامج وأعربت لى عن امتعاضها من هذا المثل"، فلنا أن نتخيل طعم ومذاق مثل هذه الفطيرة إذا ما أكلناها وإذا ما أجبرنا على تناول كميات كبيرة منها. لم تكن تلك الفكرة إلا إنشاء كيان مبتور الوجدان يسيل له لعاب حكومات جنوب المتوسط كى تضيق الخناق على شواطئها لتقليل أعداد المهاجرين عن طريق القمع الأمنى، ولكن حدثنى أحد الأصدقاء أن ناظر العزبة اللى جنبنا، على حد وصف المرحوم السادات، القذافى لم يستطع فى بلده، الذى يرسل لمصر النعوش واحداً تلو الآخر منذ فترة، أن يضبط كالعادة حدوده البرية التى تدخل منها نسب مهولة من الراغبين فى الهجرة غير الشرعية ولا حدوده البحرية المصدرة لتلك الهجرة بسبب حالة الفوضى وعدم الانتظام المعروف بها نظامه ناهيك عن توتر العلاقات بين المغرب وإسبانيا بسبب جزيرتى سبتا ومليليا واستخدام المملكة المغربية هذا الكارت لضغوط سياسية ما حذا بالاتحاد من أجل المتوسط أن يندحر قبل ظهوره للعلن ويتم وأده فى مهده وهو كيان لا يزال صغيراً. تبقى أوروبا محط الاهتمام وقبلة الأنظار والعيون لدى الكثير من الراغبين فى تحسين حياتهم ومستواهم المعيشى عن غير دراية وعن غير استيعاب، لأن صورة أوروبا فى أذهان هؤلاء هى صورة مغلوطة تماماً عن الحقيقة، فعلاوة على ما تقدم فى صدر هذا المقال من وصف للواقع الحياتى للمهاجرين فلابد من القول، إن الآن من الصعوبة التى تصل لدرجة المستحيل أحياناً أن يحصل المهاجر غير الشرعى على إقامة فى أى بلد أوروبى لأسباب عدة أهمها استغناء الأوروبيين أنفسهم عن العمالة اليدوية والتى كانت السبب فى تغاضيهم فى السبعينات والثمانينات بل والتسعينات عن هؤلاء المهاجرين إذ أن توسعة الاتحاد الأوروبى عام 2005 وضم 12 دولة جديدة تمثل دولاً شيوعية سابقة قد حقن أوروبا بعدد ضخم من العمالة المدربة والتى تستطيع أن تتحمل مشاق العمل الشاق الذى كان يوكل للعمالة الأخرى من المهاجرين غير الشرعيين، ولكن يبقى البولندى أو المجرى أو الرومانى أو أى مواطن أوروبى من القادمين الجدد مفضل على أى جنسية غير أوروبية لأسباب لا حصر لها وأهمها اشتراكه مع مواطنة الأوروبى الفرنسى أو الإيطالى أو الألمانى فى الفضاء الثقافى والدينى. وليست هذه سياسات متبعة حالياً على يد حكومات يمينية من المنظور أن تتغير بتغير تلك الحكومات، ولكن تم تشريع هذه السياسات فى قوانين يصعب المساس بها فى المستقبل، فقد سيطرت على أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية حالة من الهياج وليس فقط الرواج فى مختلف ميادين العمل بعد الحرب العالمية الثانية فيما سميت بعملية إعادة إعمار أوروبا والتى استمرت لعشرات السنين منذ خمسينات القرن الماضى وكانت التشريعات الأوروبية خالية من أى مواقف من المهاجرين إذ أنه لم تكن قد ظهرت تلك الظاهرة فى ذلك الوقت مما ترك المجال فسيحا فى السبعينات والثمانينات وبعض الشىء فى التسعينات للحكومات اليسارية أن تنتهج سياسات اشتراكية وتترك المجال فسيحاً للمهاجرين من جنوب المتوسط. ولكن الآن وبعد أن أتمت أوروبا بصورة نهائية إكمال بنايتها التحتية مما جعل شعوبها تتجه ومنذ التسعينات من القرن الماضى إلى انتخاب حكومات يمينية تحافظ على هوية تلك البلدان. هذه الحكومات اليمينية لم تقم بانتهاج سياسات للتضييق على المهاجرين من الجنوب الأرضى فحسب، بل سنت تلك السياسات فى صورة تشريعات قانونية مستعينة فى ذلك ببرلمانات يمينية منتخبة من قبل الشعوب الأوروبية فى خضم التوجه الشعبى الأوروبى العارم للحفاظ على هويته ومواجهة المهاجرين غير الأوروبيين. وليس من الصعب قراءة الأوضاع المستقبلية فى هذا الصدد إذا ما نظرنا لنتيجة انتخابات البرلمان الأوروبى والتى عقدت منذ شهرين فقد كانت النتيجة أشبه بتتويج لليمين بنسبة فاقت ال 80 بالمائة من مقاعد البرلمان الأوروبى مما يجعل من المستحيل بعينة الرجوع فى التشريعات التى تم سنها للتضييق على المهاجرين أو تعديل تلك التشريعات أو حتى التخفيف من حدتها. التشريعات الأوروبية لمواجهة استقبال الهجرة فضلاً عن توطينها كثيرة ويمكن ضرب مثل بها إقرار البرلمان الإيطالى تشريعاً يعطى الحق لوزير الداخلية ورئيس الوزراء إعادة المهاجرين لبلدانهم الأصلية مهما كانت درجة الخطورة فى ذلك، كما أن الألمان سنوا تشريعاً حديثاً بموجبه لا تعطى السلطات الألمانية الإقامة إلا لمن يجتاز اختبارات غاية فى الصعوبة فى الثقافة والتاريخ والعادات، فضلاً عن اللغة الألمانية، بل أن فرنسا البلد المعروف تاريخياً ببلد حقوق الإنسان تم فى منذ العام 2004 وحتى الآن إدخال تشريعات من شأنها جعل الحصول على الإقامة هو ضرب من ضروب الخيال، فأصبحت الإقامة تعطى لمن يثبت أنه أقام بصورة متصلة بصورة غير شرعية لمدة لا تقل عن عشر سنين داخل فرنسا مع وجوب إثباته اندماجه فى المجتمع الفرنسى، فضلا عن إجادة اللغة الفرنسية ومعرفته معرفة كاملة باللغة الفرنسية قراءة وكتابة وبعد استيفاء كل هذه الشروط المرهقة تبقى السلطة تقديرية لوزارة الداخلية فى منحه الإقامة أو رفض منحه هذه الإقامة. هذه مجرد نماذج لعشرات التشريعات والباقى أعقد ربما من هذه النماذج.