شط إسكندرية يا شط الهوا.. ينطلق صوت فيروز رقيقا عذبا يزيح كل إحساس بالفتور.. يلتفت محمد إلى راكب وراءه يناوله أجرة الميكروباص.. يضحك حسين صديقه (اللى واخد عقلك) يبتسم محمد ابتسامة تائهة. ينظر من الشباك وكأن كلمات صديقه خرجت من حيث دخلت.. يترك محمد وجهه لتيار الهواء المتعامد عليه ويفتح أنفه ورئتيه ليستنشق بقوة وعمق مغمضا عينيه.. محدثا نفسه (يارب أبويا يقدر يتصرف ويجيب مصاريف المدرسة يارب) يهزه حسين هزات متتالية لكى يهم بالنزول.. (وصلنا). ينزل محمد وعقله شارد فى طريق آخر غير الذى يسير فيه مع حسين صاحبه.. يحثه حسين على الحديث دون جدوى.. (مالك يا أبوحميد إن شاء الله هتتحل والفرج هييجى من وسع).. وينصحه حسين بأن يبيع موبايله أهو يساعد شوية فى المصاريف. تلمع الفكرة فى ذهن محمد وكأنها هبطت عليه من فوق سبع سماوات.. تتهلل أساريره ويبتسم من قلبه.. الموبايل جديد وعمى الحاج (على) جابو هدية من السعودية بالشىء الفلانى. يدق دقات متسارعة على باب شقتهم.. ينادى يا أما.. افتحى يا ولية.. يأتيه صوتها متخاذلا مغموسا فى نبرة حزينة.. (أيوه جايه أهو). ملامحها الشاحبة تعطيه إحساسا بأن كارثة ما وقعت.. لاينتظر إجابتها على سؤاله الذى لم يطرحه عليها! تنطلق نظراته الشاردة إلى حجرة نوم أبيه فيرى ما كان يخشاه.. يتمدد جسده النحيل، ينتفض بين لحظة وأخرى، يلقى محمد بجسده بين قدمى والده بللت دموعه كفيه.. وإذا بطبيب يحسم نهنهات محمد ووالدته. (لازم يتنقل المستشفى حالا).. يلتفت محمد حوله، يبحث عنه بلهفة تنتابه لحظات قلق على فقدانه، فهو الأمل الوحيد الآن.. تحت السرير.. فى جيبه.. فى أدراج دولابه.. بهستيريا تتحرك يداه.. جسده.. قدماه.. عيناه.. وأخيرا وجده فى المطبخ ألقاه على ترابيزة المطبخ عندما اكتشف مرض والده.. أمسكه كأنما يمسك بسنوات عمره السبع عشرة.. لم ينطق! انطلق يبحث عمن يعطيه فيه أكبر مبلغ.. كثيرون رفضوا لأنه بلا ضمان.. وآخرون قللوا من قيمته إلى النصف.. لم يبق سوى عمى فى الزقازيق ليسلفه أى مبلغ، وإذا رفض يعطية الموبايل رهنا.. لم يفكر محمد كثيرا ركب القطار من الإسماعيلية.. لم يلاحظ سعيد وشلته، هو يعرف أنهم لن يتركوه فى حاله.. لكنهم يعرفون أن العين بصيرة والإيد قصيرة. لم ير نظرات الشر التى ملأت عيونهم.. لمح سعيد موبايل محمد وهو يخفيه فى جيبه ويمسك عليه. اقترب سعيد من محمد، لم يسمح أن يدافع عن نفسه أن يشكو لهم قلة حيلته.. كان قرار الموت أسرع من نظرات التوسل التى بللها محمد بدموع لم يجد سواها ليعبر عن ضعفه فى مواجهة فرمان موته. لحظات وانتهى كل شىء. محمد بين يدى الله. والموبايل بين يدى سعيد.