بعد 16 عاماً فى السلطة وأخرى مثلها كلاجىء سياسى فى مصر رحل الرئيس السودانى الأسبق جعفر النميرى بعد حياة درامية أثارت جدلاً فى تاريخ السودان والمنطقة، نظراً لتحولات نميرى من الاشتراكية إلى النهج الإسلامى فى فترة امتازت بالديكتاتورية ومهدت لما يحدث فى السودان حالياً من أزمات، وكان سبباً فى التهديد بانفصال جنوب السودان، وتفجرت فى عهده فضيحة تهريب يهود الفلاشا من الحبشة، وهو الاتفاق الذى وقعه نميرى مع رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق أريل شارون فى كينيا. شارك نميرى فى تأسيس العديد من الشركات الاستثمارية أثناء فترة إقامته كلاجىء سياسى فى مصر بعد اندلاع ثورة ضده عام 1985 وكاد الثوار أن يفتكوا به لولا تدخل القاهرة، وقد أقام فى قصر الضيافة بمصر الجديدة 15عاماً قبل أن يعود إلى السودان مع المعارضة. والمثير فى الأمر، كما يقول المؤرخ السودانى د.كمال عثمان أن النميرى رحل قبل أن يحتفل بذكرى ثورة مايو التى فجرها إبان حكمه وقد ترأس قبل رحيله حزب تحالف قوى الشعب العاملة، وكان يريد الترشح فى الانتخابات الرئاسية القادمة لخلافة البشير. عرفت علاقة الرئيس السودانى الأسبق جعفر محمد النميرى بقضية جنوب السودان لحظتين هامتين، كانت أولاهما التفاوض والاتفاق الذى جسدته اتفاقية أديس أبابا أوائل السبعينيات، وثانيتهما الاختلاف والمواجهات الدامية حينما جمد النميرى تلك الاتفاقية. قام النميرى عام 1983 بتقسيم الجنوب الذى كان ولاية واحدة إلى ثلاث ولايات "أعالى النيل وبحر الغزال والاستوائية" تلبية لرغبة بعض الجنوبيين، خاصة جوزيف لاغو الذى كان يخشى من سيطرة قبيلة الدينكا على مقاليد الأمور فى الجنوب، وكان أبيل ألير نائب النميرى من قبيلة الدينكا، وكان مسيطراً على جميع أمور الجنوب. ويذكر أن اتفاقية أديس أبابا تنص على جعل الجنوب ولاية واحدة، ولهذا اعتبر البعض تصرف النميرى بمثابة إلغاء لاتفاقية أديس أبابا وتعقد الصراع أكثر بين الشمال والجنوب حينما بدأت بوادر الاكتشافات النفطية تظهر فى جنوب السودان أوائل الثمانينيات. وفى منتصف العام 1983 اتهمت حكومة النميرى الرائد كاربينو كوانين قائد الكتيبة 105 بمنطقة بور جنوب السودان باختلاس أموال وحاولت التحقيق معه فأعلن تمرده، فشنت القوات الحكومية هجوما على الكتيبة لإخضاعها، ما أدى إلى هربها إلى أدغال الاستوائية لتصبح فى ما بعد نواة الجيش وقد كان فى إعلان النميرى تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية فى سبتمبر 1983 مدعاة بالنسبة للجنوبيين للنفور أكثر من حكومة الخرطوم، ورفع المتمردون شعارات يسارية ووجدوا فى الرئيس الإثيوبى مانغستو هيلا ماريام سنداً قوياً وقاعدة خلفية واشتدت محاربتهم للحكومة. ومع أن عهد النميرى الذى دام 16 سنة كان قد عرف أطول هدنة بين المتمردين والحكومة المركزية بالخرطوم دامت 11 عاماً، فإنه عرف أيضا ظهور الحركة الشعبية وجناحها العسكرى الجيش الشعبى لتحرير السودان، كما عرف بروز جون قرنق أبرز زعماء المتمردين وشهدت الحرب الأهلية فى عهده فصولاً دامية.