لقد جاء فى كل صحفنا السيارة منذ أكثر من عام، إشارة فى صفحاتها الأولى إلى إعلان د.صفوت النحاس رئيس جهاز التنظيم والإدارة عن برنامج تدريب 24 ألفاً من موظفى الحكومة على الابتسامة فى وجه طالب الخدمة.. وأكد أن الابتسامة سيجدها المواطن مع أداء 750 خدمة جماهيرية.. وأشار د.النحاس إلى أن هذه الخدمات الجماهيرية تشمل تراخيص البناء والإسكان والمعاشات ورخصة القيادة، وأن هذا العدد من الموظفين سيتم توزيعهم على الدورات التدريبية بحيث تشمل كل دورة ما بين 200 إلى 300 موظف، ويشير الخبر أن هذه الدورات الهدف منها القضاء على البيروقراطية (وأظنهم يقصدون الاستخدام السيئ للبيروقراطية).. لقد ذكرنى ذلك القرار الحكومى بما جاء فى كتاب "حديث عيسى بن هشام" أن الموظف نراه فى عيون الناس وقد باع للحكومة حريته ووهب لها نفسه تفعل فيها كما يحلو لها مقابل أجر لساعات اليوم وأيام الشهر وأشهر السنة.. هو يرى فى خدمة الحكومة عزة وجاهاً ومجداً بينما فى أحيان أخرى يراها شقاء وتكديراً وعمراً يفنيه بلا مقابل". إن المناخ المحيط بالموظف والتقاليد المصلحية المتوارثة تدعم الأداء النمطى التقليدى وتحيله إلى مجرد شىء لزوم دفاتر الحضور والانصراف واستمارات 50ع.ح.. لقد تفاقمت أمراض الإدارة وعللها، ولن يداويها تطبيق آليات الحكومة الإلكترونية، ولن يجملها محاولات زغزغة الموظف حتى نرى البسمة وقد علت وجهه.. فما جدوى تحقيق شكل عصرى للأداء، بينما جوهر النظم الإدارية والقائمون على تقييمها ومتابعتها، يحكم آليات عملهم هياكل وتشكيلات وظيفية ونظما للتقييم والتحفيز والترقيات، تنتمى جميعا لقيم ومفاهيم زمن ورق الكربون والريشة والمداد الأزرق السائل.. لقد غاب عن الحكومة البُعد الثقافى والبيئى والإنسانى عند تغيير الآليات والوسائل.. فإذا كان هذا هو حال موظفينا والدواوين الحكومية التى يقبعون على مكاتبها (إذا توفر لهم مكاتب) .. فإننى أراهن على استمرار "التكشيرة" بعد أن غاب كل ما يدعو إلى الابتسام من جانب الموظف وأيضاً المواطن طالب الخدمة ما دمنا لم نعالج أولاً علل الإدارة وأمراضها (التى صارت تمثل مناطق خلل وعثرات فى طريق التقدم).. ولعل هذا ما أثار كاتبنا الكبير أحمد رجب فى تعليقه الساخرعلى ذلك القرار الحكومى "من العسير أن يبتسم الموظف بهمومه المعيشية الأليمة، وأسهل أن تكسر فك كل موظف وتحصل على ابتسامة لا تغيب".. الناس فى بلادى لا يحتاجون فى هذه المرحلة وبأولوية عاجلة ميكنة الإدارة، نظراً لأن ما يقارب نصفهم يقعون تحت نير الأمية الأبجدية ونسبة كبيرة من النصف الثانى تشملهم أمية ثقافية وكمبيوترية.. متى نبدأ فى تفعيل والاستفادة بتكنولوجيا المعلومات فى كل القطاعات الحكومية ليفيد منها صانع ومتخذ القرار لتحقيق النمو الاقتصادى.. فى مجال التعليم من بُعد والتعليم المستمر على سبيل المثال، فإن الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات تحقق درجة من التواصل الجغرافى المذهل بأكبر أعداد من طالبى التعلم والباحثين عن المعرفة فى كل صورها، وعلينا فى هذا الصدد إعداد القوى البشرية وإعلاء قدراتها من خلال نظم غير تقليدية فى التدريب ونقل المهارات والخبرات .. إن المواطن فى طابور الحصول على رغيف العيش لا يعنيه أمر تكنولوجيا المعلومات ولا حتى تكنولوجيا صناعة الرغيف.. الناس فى مترو عزبة النخل وقد تلاحمت أجسادهم حتى لم يعد هناك موضع لقدم أو متسع لهواء بعد أن غابت المراوح وأجهزة التكييف لا يهمهم قطعاً تطبيقات الحكومة الإلكترونية وقد وقع منهم من وقع مختنقاً بعد أن عجزت هيئة المترو أن تهبهم نسمة الهواء، مكتفية بتشييد المحطات الفاخرة ورفع قيمة التذاكر والاشتراكات ثمناً لتطبيقات تكنولوجيا الغد.. الناس بالفعل تحتاج إلى حكومة "أون لاين" تخلق حالة من التواصل السريع والساخن والحانى مع المواطن ذى الأحلام البسيطة والممكنة فى هذا البلد العظيم.. وعندما تتحقق سيكون المواطن جاهزاً للحكومة الذكية، ومشاريعها الطموحة. إن الفساد الإدارى يبدأ فى الظهور بصورة خفية آخذاً شكل السلوك الذى يحاول فيه الفاسد فى البداية العمل فى الخفاء حتى لا يجابه بغضب ونبذ المجتمع.. وبالتدريج يجد من الآليات الماكرة والخبيثة ما يستطيع به تمرير السلوكيات الفاسدة، مستنداً لمفاهيم فولكلورية سلبية فى بعض الأحيان، فإذا قام بعضهم بتيسير حصول عميل على قرض دون وجه حق مقابل رشوة قال "طباخ السم بيدوقه" وإذا قام آخر بترسية مناقصة على قريب له أو أحد من معارفه يقول "الجار أولى بالشفعة".. وما إلى ذلك من مبررات ميكافيلية يحاول من خلالها تصوير الأمر لمن حوله أنه إذا كانت الغاية تحسين الدخل والانتقال إلى مستوى اجتماعى أعلى، فما الضير فى اختيار الوسيلة مهما وصفها الناس بأنها تتجاوز حدود المقبول أو أنها تمثل اختراقاً لكل القيم والأعراف الإنسانية أو اختراقا للقوانين والنظم المعمول.. فتكون النتيجة تحطيم معنويات الناس وفقدان الثقة فى القيادات وحدوث أزمات اقتصادية واجتماعية وإنسانية.. فى وصفه للحكومة الصالحة، أشار الفيلسوف الصينى كونفوشيوس إلى3 مقومات يجب توافرها.. الغذاء الكافى، والقوات، وثقة الناس.. وأكد أنه يمكن التغاضى نسبياً عن عنصرين.. لكن تظل ثقة الناس والشعب بالحكومة هى الأساس لقياس صلاحية أى نظام حكومى، وهذه الثقة تتولد بشكل رئيسى لدى المواطن من خلال معاملاته اليومية مع دواوين الحكومة وممثلها الموظف الذى صار فى رأيى يجمع كل التناقضات.. فهو الجبار المسكين والظالم المظلوم ورمز السلطة وأسيرها هو يرى فى خدمة الحكومة معزة وجاهاً ومجداً.. بينما يعود فى أحيان أخرى فيراها شقاء وتكديراً وعمراً يفنيه فى مقابل لا شىء.. والذى قال عنه الكاتب الصحفى والشاعر محمد بغدادى فى حالته المثالية: بيقبض مرتب يادوبك يعشى العيال قرنبيط مرتب يضحك، ما يجيبش حاجة ! وهوه بيضحك كمان على الحكومة وما بيعملش حاجة ! بيقدر يقرطس رئيسه المباشر وطبعاً رئيسه كان "موظف مثالى" ولما كبر.. دخل فى الغويط وله فى جميع المصالح سبيل أى مصالح تلك وما هى سبلها؟ وإلى أى حد كان الدخول فى الغويط؟.. إنها فى النهاية منظومة الإدارة المصرية التى فاقت أسقامها كل التوقعات..