الوحيد من نوعه بالعالم تلك السواقى التى تزدان بها محافظة الفيوم، تخفى وراء أنينها .. وروعة منظرها الذى يقصده الزائرون من كل مكان، جهد ثلاثة أشخاص، وحدهم قادرون على إصلاح تعطلها أو صناعة مولود جديد من نفس فصيلتها، لقد حافظ «روبى رمضان» ونجله محمد وابن شقيقه رمضان محمود على تراث ألفى عام فى مهنة صناعة واصلاح السواقي، وقد اندثرت هذه المهنة تماماً ولم يبق من يحترفها إلا هؤلاء الثلاثة. طه البنا عم روبى «76عاماً» قضى منها نحو ستين عاماً فى مهنة صناعة السواقى منذ أن كان طفلا صغيراً يتلقى تعليمه فى الحرفة على يد أسرته، التى يقول إنها توارثت المهنة منذ قديم الزمان، ويضيف «إن الآلة التى تشتهر بها الفيوم اسمها الحقيقى «التابوت» وليس «الساقية» كما يطلق عليها البعض، والفيوم تنفرد بهذه الآلة، حيث لا يوجد لها مثيل فى العالم سوى فى سوريا، وتسمى «الناعورة» لكنها تختلف عن سواقى الفيوم فى الشكل ، وفى الخامات المصنوعة منها. يوضح عم روبى أن «التابوت» يختلف عن الساقية فى أنه يدار بقوة دفع المياه، أما الساقية فتعمل بواسطة الدواب، مشيراً إلى أن التابوت يصنع من الخشب الأبيض العزيزى وعروق الخشب، وبعض أجزاء الجزوارين وتصنع على أن عدة أجزاء يتم تجميعها لتصبح فى النهاية على الشكل المعروف الموجود فى «الفيوم» ، ويختلف قطر كل «تابوت» حسب قوة دفع المياه فى المكان الذى توجد به، وحسب مساحة الأرض التى ترويها ويسمى الجزء الدائرى «الدوارة» ويتم تغليفه بالخشب الأبيض «الغطاء» ويترك فيه عدة فتحات تسمى «العيون» ويثبت على «الدوارة» عدة أرفف تسمى «البوش» وهى التى تستقبل قوة دفع المياه لتدفع التابوت، وبذلك يظل يعمل ليحمل الماء من الأسفل إلى الأعلي. عم «روبي» يؤكد أن عائلته هى آخر من تبقى من صناع السواقي، وهم يتوارثون هذه المهنة منذ مئات السنين، وأن المهنة لم تعد صناعة فقط، بل أصبحت موروثا ثقافيا نحاول بقدر المستطاع الحفاظ عليه من الانقراض، فالأجيال الجديدة فى العائلة تخرجت فى الجامعات ومع ذلك حرصت على توارث المهنة. عم «روبي» لا يعمل طوال العام سوى 51 يوماً هى فترة السدة الشتوية، حيث يقوم خلالها بإصلاح السواقى وإعادة صيانتها ، كما أنه بين الحين والآخر تكلفه هيئة تنشيط السياحة بصناعة «تابوت» جديد للحفاظ على تراث المحافظة، ويقول إن أدواته بسيطة جداً، وهى عبارة عن أدوات النجارة التقليدية التى عرفها الإنسان المصرى منذ عهد الفراعنة. أما الخبير السياحى محمود مصطفى مدير عام هيئة تنشيط السياحة السابق فيقول: إن سواقى الهدير عمرها فى الفيوم يربو على الألفى عام، وبالتحديد ابتكرت فى العصر البطلمى ، بعد أن اتجه المصرى القديم إلى الزراعة فى الفيوم ذات الطبيعة الخاصة ، فهى عبارة عن منحدرات تبدأ فى الجنوب من ارتفاع 62 مترا فوق سطح البحر فى مدخل المحافظة من الجنوب عند قرية اللاهون، وتنتهى بارتفاع 44 متراً تحت سطح البحر شمال المحافظة عند شواطئ بحيرة قارون، ولحاجة الفلاح القديم إلى رى اراضيه من منسوب أدنى إلى منسوب أعلى كان عليه أن يفكر فى وسيلة لرفع الماء إلى الأرض الزراعية، ولأن المحافظة منحدرة فقد صنعت المياه شلالات مختلفة الارتفاع فى أجزاء كثيرة من بحر يوسف المصدر الرئيسى للمياه فى المحافظة، فاستغل البطالمة هذه الشلالات فى دفع سواقى الهدير التى صنعت بأقطار مختلفة حسب ارتفاع الأرض لتجلب هذه السواقى المياه من أسفل إلى أعلي، بفعل قوة دفع المياه ذاتها. وسواقى الفيوم لا يوجد لها مثيل على مستوى العالم، إلا بسوريا ، ويطلق عليها «الناعورة» ولكنها تختلف عن سواقى الفيوم فى الشكل وطريقة التصنيع والخامات المستخدمة، لأن «ناعورة» سوريا يستخدم فيها الصاج والحديد أما سواقى الفيوم فكلها من خامات البيئة المحيطة. وأكد محمود مصطفى أن الفيوم كان بها عدد من السواقى يقدر بالآلاف انقرض هذا العدد، حتى وصل إلى بضع عشرات، لا تصل إلى مائتى ساقية ، تحاول المحافظة الحفاظ عليها من الانقراض، لتظل مزارات سياحية فقط، بعد أن تم الاستغناء عن خدماتها، إما لتحول الأرض الزراعية إلى مبان وكتل خرسانية كما هو الحال لسواقى وسط مدينة الفيوم، أو لأن الفلاح الآن أصبح يستخدم مواتير رفع المياه التى تعمل بالسولار.