«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة إلي أرض الأساطير:
الفيوم تبوح بأسرارها
نشر في آخر ساعة يوم 23 - 04 - 2013

بحيرتها مرآة تعكس أمزجة النهار منذ الفجر وحتي ما بعد الغروب، في لوحات متتابعة. تبدأ رمادية ثم فضية وسرعان ما تكتسب اللون السماوي، قبل أن تأخذ درجات البرتقالي في آخر اليوم. ارتبط إقليم الفيوم منذ أقدم العصور بالماء، ليس بسبب البحيرة فقط، فسواقيها الدائرة منذ آلاف الأعوام ترسخ صورتها كواحة متميزة هي الأقرب إلي القاهرة. وبخلاف طبيعة أرضها المنخفضة والمتدرجة بوضوح، فإن الرحلة إليها دائما ما تكون مليئة بالمفاجآت. في هذه المرة شملت رحلتنا أماكن مختلفة من وادي الريان الذي يضم بحيرات وشلالات في قلب الصحراء، إلي سياحة ريفية فريدة في طابعها في قرية تونس إلي آثار فرعونية ورومانية، ووصولا إلي فنون مبهرة حديثة وتلقائية وهي جديرة بالبلد الذي أخرج لنا وجوه الفيوم صاحبة الإطلالات السرمدية. إنها رحلة مرتجلة للبحث عن كنوز الفيوم التي ستبدأ في اكتشافها بمجرد العبور إلي أرضها.
الفيوم تبوح بأسرارها
البحث عن كنوز قارون في قاع البحيرة
هناك أسطورة يرددها الكثيرون خاصة ببحيرة قارون وهي أنها تكونت بفعل انخفاض أرضي نتج عن خسف الأرض بقارون وبيته وكنوزه، تلك الشخصية الشهيرة والمذكورة بغناها الفاحش، حتي أن مفاتيح خزائنه وحدها كانت ترهق حامليها وهم عصبة أولو قوة. لكن النصوص الدينية التي تذكر القصة لم تحدد أرضا محددة للواقعة، ومن الناحية العلمية تعتبر البحيرة أقدم من وجود الإنسان في المكان فهي ما تبقي من بحيرة موريس القديمة، والتي كانت تمتد لتشمل كل مساحة الإقليم. لكن حلم البحث عن كنوز قارون والذي داعب خيال الكثيرين لا يضيع هباء وسيجد محبو الكنوز الطبيعة والإنسانية ما يسحرهم في هذا المكان.
قررت أن تكون الرحلة مرتجلة ودون تخطيط محكم. أشبه برحلة استكشافية للتعرف علي المكان، وإعادة اكتشافه. المكان بشكل عام يجمع في خصائصه بين الريف المصري المعروف وبين الواحات. وتلاحظ أن أنشطة الناس علي جانبي الطرق تتراوح بين الزراعة والصيد. كان المستقر علي شاطئ البحيرة، حيث روح الفيوم الحقيقية، الحقول ملاصقة للمياه، والفلاحون وهم يحصدون القمح ببريقه المعدني يجاورون صيادي الأسماك، وهم يعدون شباكهم في الصباح الباكر. بينما تنتشر بعض الحيوانات الحقلية في الأرجاء تحت النخيل والأشجار. صورة لريف حافظ علي كثير من نقائه الطبيعي. كان شابان يقومان بالحصاد بينما طائر أبو قردان يرافقهما ويتحرك حولهما في ألفة تمتد إلي آلاف السنين. ذلك الطائر الذي كان مدخلا إلي مراقبة الطيور الأخري علي شاطئ البحيرة، وحتي عند بحيرات وادي الريان في نهاية الجولة. والطيور في الفيوم قادرة لجمالها علي أن تسرق وقتك فاحترس إن كان لديك برنامج محدد للزيارات والجولات. ستجد مجموعات من طيور مصرية معروفة وأخري من طيور بحرية مهاجرة. أما مراقبتها فتحتاج إلي صبر حيث أنها علي عكس أبي قردان لا تقترب كثيرا ولا تسمح بالاقتراب. تجدها في مجموعات صاخبة عند أحد الشواطئ المتموجة معلقة في الهواء بتوتر، تصوب بصرها ناحية الماء وتتساقط ملتقطة ما يجود به الموج وتصعد من جديد تمارس اهتزازها المترقب. أو تجد مجموعات قليلة من طائر أسود يعرف في الريف المصري ببط الحقول، وهو نوع من البط الذي يعيش في الأماكن الرطبة والمستنقعات ومجاري المياه. أو طيور بحرية بيضاء متوجة بريشتين رفيعتين في ثنائيات أو ثلاثيات. وتشاهد طائر الغواص ذا العنق الأسود والبط الدرقي.
الناس ودودون علي شاطئ البحيرة وإن انتابهم بعض الفضول حيال تصويرك لتلك الطيور التي يعتبرونها مألوفة إلي حد استغراب اهتمامك بها. ستجد طوال الوقت من يدعوك لشرب الشاي أو تناول الإفطار، حتي ولو لم يكن هناك شاي أو إفطار، لكنها دعوة تستشعر صدقها وترحيبها بالآخرين. وإذا أردت تصويرا أفضل للطيور فيستحسن أن تستقر عند واحدة من تلك الخلجان الصغيرة المتفرعة من البحيرة، من تلك التي يكثر حولها العشب. وأن تجلس في سكون حتي تطمئن الطيور المراقبة والماسحة للأرض، وتنسي وجودك، وحاذر من الالتفاف فجأة، لأن هذا ينبهها. الهدوء والسكون هو الضمانة لتحظي بلقطات قريبة لذلك الاستعراض المبهر للحياة، وهي بالمناسبة عملية ممتعة للغاية. وبين الطيور المائية وطائر الغطاس وطيور الشاطئ وطيور الحقول يمضي الوقت. وبعضها طيور مستوطنة والكثير منها طيور مهاجرة لها مواسمها، وبعضها يضع بيضه ويفقس عند البحيرة، وقد سبق لي أن عايشت أحد هذه المواسم في جزيرة داخل البحيرة تعرف بالقرن الذهبي، وكانت الطيور بمئات الآلاف تراقب بيضها وهو يفقس، وأفراخها السوداء تخرج من البيض وتتجه مباشرة نحو البحيرة في مشهد من أجمل ما رأيت في حياتي، ويومها تعلمت درسا عمليا في عملية الانتخاب الطبيعي، لأنني لاحظت أن طيورا قليلة لا تتجه إلي الماء عندما تخرج من البيضة، وكانت تذهب مترنحة إلي داخل الجزيرة. وعندما سألت عن هذا كانت الإجابة إن هذه الطيور تموت لأنها تجف بفعل الشمس خلال أقل من ساعة، وهي لا تذهب إلي الماء لخلل في جهاز التوجيه برأسها، ومن ثم تستبعدها الطبيعة من بداية رحلة للحياة تحتاج فيها إلي جهاز توجيه قوي وسليم في سفرها وهجرتها.
مشاهدة السواقي عمل روتيني، كأنك لا تستطيع أن تقول أنك ذهبت للفيوم دون رؤيتها. وفي مدينة الفيوم زرت أربع سواق محاطة بسور وحديقة بها كافيتريا، لكنني أردت معاينة السواقي في بيئتها الطبيعية فذهبت بمحازاة بحر يوسف إلي حيث شاهدت مجموعات من السواقي علي مسافات متقاربة. وهي تدور بفعل تيار المياه المتدفق عبر الترعة والذي يتسارع عند الدخول في بيت الساقية، وتمتلئ الساقية بالماء الذي يبدأ في الخروج من الثقوب من الجزء العلوي ثم تلقيه في حوض يبعد حوالي نصف المتر وهو ينقلها بدوره إلي المجري حيث تذهب للحقل.
عندما تفكر بالفيوم من الناحية التاريخية والأثرية فلا بد أن أول ما يتبادر إلي ذهنك: وجوه الفيوم. وهي عبارة عن لوحات صغيرة الحجم لوجوه أشخاص كانت تدفن معهم في الفترة الرومانية والقبطية كبديل عن رسمهم علي التوابيت. وتعتبر ذات طبيعة فنية وجمالية خاصة، وتعتبر أول بورتريهات في التاريخ، وأصل فنون التصوير التي ازدهرت فيما بعد في الغرب. وتضم تلك الوجوه رجالا ونساء وأطفالا ينظرون نحو الأبدية، تظهر أجزاء من ملابسهم وحليهم، وهي ترسم غالبا علي رقائق خشبية. ولها محبوها بل والمهووسون بها، وشخصيا أحافظ علي رؤيتها بانتظام في الطابق الثاني من المتحف المصري بميدان التحرير كل عدة شهور. ورغم أن هذه الوجوه قد عثر عليها في أماكن مختلفة من مصر إلا أنها حملت اسم الفيوم بسبب اللوحات الأولي التي تم اكتشافها في مقابر بمنطقة هوارة. لكن هوارة لا تقتصر علي ما أهدتنا إياه من لوحات بديعة، بل ستجد فيها هرم هوارة الشهير.
للوصول إلي هرم هوارة من مدينة الفيوم سلكت الطريق الدائري ومنه إلي طريق بني سويف ثم يسارا فيمينا حيث يقع الهرم جنوب شرق المدينة بحوالي عشرة كيلومترات. والعلامات الإرشادية علي الطريق قليلة كالعادة. الهرم بناه امنمحات الثالث من الأسرة الثانية عشرة، من الطوب اللبن المكسو بالحجر الجيري. وكان به حجرة للدفن عبارة عن قطعة حجرية واحدة ومنحوتة لكن ورغم عدم وجود باب يؤدي إليها إلا أن اللصوص استطاعوا الوصول إليها عبر فتحة صنعوها في السقف. الهرم يقع كالعادة في منطقة صحراوية ويحيط به عدة مقابر مفتوحة. وفي المنحدر المجاور يمر بحر يوسف وهو مصدر مياه النيل التي تأتي إلي الفيوم. كما توجد الحقول علي الجانب الآخر. الهرم ارتفاعه حوالي 58مترا وطول كل ضلع من أضلاعه 100مترا. وتظهر في الأفق علي البعد مدينة الفيوم الجديدة.
عين السليين من المعالم التي طالما اشتهرت بها الفيوم. وكانت عبارة عن عين ماء تتدفق طبيعيا وتحتوي علي مجموعة من المعادن. وقد انقطعت المياه عن العين علي أثر زلزال عام 92والذي يرجح أنه قد سبب صدعا سرب المياه إلي مكان آخر أو أن يكون تحرك الأرض قد أغلق ممر خروج المياه بالصخور. حاليا تضخ العين مياها عادية، لكن نظرا للطبيعة الخاصة للمكان والذي تتدرج فيه الأرض وتنحدر وتنتشر البساتين، فإن هناك جهودا بذلت لإعادة الحياة للمنطقة. وقد التقيت بمصطفي الليموني مدير المنطقة السياحية بالسليين وشاهدت معه بعض معالم المكان، ومنها مركز للحرف التقليدية انتهي بناؤه ويجري تجهيزه حيث سيحتوي علي 24 ورشة ومعرض للحرف المختلفة من سجاد وكليم وخوص وفخار وجريد ونحت علي الخشب. كما يحتوي المكان علي قاعة عرض بانورامية لعرض الفلكلور الفيومي والمناطق السياحية. كما يوجد 24شاليها للإقامة الفندقية تحت التشطيب وينتظر طرحها قريبا إلي جانب حمام سباحة وخدمات أخري. كما توجد بالمنطقة التي تقع علي ستة أفدنة مجموعة من المقاهي والكافيتريات.
وخلال جولاتك في الفيوم ستجد أبراج الحمام المميزة والتي تختلف عن الشكل المعروف في معظم أرجاء مصر حيث أنها أبنية أكثر تركيبا وأقل انسيابية، وهي أشبه بصوامع مبنية علي عدة طوابق جميلة الشكل.
الفن نفخ فيها من روحه..
تونس قرية من صلصال كالفخار
وقال الفن لتكن تونس علي وجه الماء. وبث فيها الروح، فأعاد خلقها ليحولها من قرية عادية إلي مزار سياحي فريد. بها ثلاثة فنادق، وعدة منتجعات ريفية وبضعة معارض لفنون الخزف ومركز للفنون ومتحف للكاريكاتير ومهرجان سنوي لفن الخزف وعشرات المبادرات والأفكار. معمار القرية نفسه تغير وأنشطة داعمة للسياحة تنشأ كل يوم رغم الظروف السياسية. نموذج رائع للسياحة الريفية والبيئية، كلها مدنية وباعتراف الجميع لمبادرة عمرها أربعون عاما، عندما أنشأت السيدة إيفيلين أول أتيليه لصنع وتعليم الخزف للأطفال. هؤلاء الأطفال الذين صاروا فنانين كبارا يشاركون في معارض دولية ويصنعون روح القرية الجميلة التي يقصدها الكثيرون في الإجازات لقربها من القاهرة، كما يعرفها محبو السياحة البيئية من كل دول العالم.
الفن وحده قادر علي صناعة تلك المعجزة، ليس فقط لأن لمسته السحرية تشيع الجمال أينما حلت، ولكن لأن روح الإبداع تجعل المستحيل ممكنا. أسعدني الحظ بزيارة قرية تونس عدة مرات وكنت كل مرة ألمح التغيير يسري في كل شيء. كأن روحا جديدة تلبست القرية وتصر علي استكمال تحويلها. شوارع كاملة أصبحت الآن مبنية علي طرز بيئية جميلة.. فنادق جديدة ومنتجعات ريفية طينية صغيرة تنشأ. فنانون في مجالات مختلفة اختاروها للإقامة ولعمل أتيليهات خاصة في أحضان الطبيعة وعلي شاطئ بحيرة قارون. أماكن لتأجير الخيول حيث يمكن الاستمتاع بالسير بها علي ضفاف البحيرة في الصباح وعند الغروب في مشهد بديع. ومن الجميل أن تتذكر في كل لحظة ان كل هذا مدين للفن. مثال حي علي قدرة الفن علي تحويل كل شيء للأفضل. التقيت بالفنانة راوية وهي واحدة من مبدعات الخزف الأشد تميزا في قرية تونس. بدأت مع إيفيلين وتلقت أولي مبادئ هذا الفن عندما كان عمرها دون العاشرة. كانت ضمن مجموعة من الأطفال، أولادا وبنات، ولكن سرعان ما توقفت الفتيات واحدة تلو الأخري عن الحضور إلي الأتيليه بسبب الزواج المبكر الذي كان منتشرا في القرية، وأصرت راوية علي المواصلة متحدية التقاليد الصارمة وضغوط الأهل والمجتمع، وواصلت تميزها وشاركت مع إيفيلين في معارض كثيرة داخل مصر وخارجها وشعرت بأنها منذورة لهذا الفن. وفي الوقت المناسب تزوجت وأنجبت وصنعت مكانها الخاص الذي يقصده الزائرون ويبحثون عنه بالاسم، ضمن المجموعة الأكثر تميزا في تونس. الآن تغيرت الأحوال بعدما حققت راوية نجاحها، وصارت معظم الأسر تقبل علي تعليم بناتها فنون الخزف ويتمنون أن تكون لديهن الموهبة والقدرة علي النجاح مثل راوية. وهذا أثر للفن لا يقل عن التحول الجمالي المعماري والأنشطة السياحية، يظهر أثره هذه المرة علي الإنسان. تتميز راوية بدقة رسومها وبتقنيات جديدة وأسرار في عمليات التلوين وتبرع في عمل درجات من الأزرق والأخضر. عندما كانت طفلة كانت تبرع في رسم الأطباق وعليها صورة المرأة والرجل. الآن تحب ابنتها سارة عمل نفس الشيء وبرعت رغم صغر سنها في تشغيل الدولاب وصنع الأطباق والأواني بدقة وسرعة. بينما تعاونها أخواتها الصغريات. حالة فنية استحقت التوقف ضمن بيوت الفن في تونس.
تدير راوية العمل وتشتري المون بنفسها من مصر القديمة، وتقوم بالتصميم والتنفيذ وتعتمد علي حرق القطع مرة واحدة، وهي متفائلة رغم انخفاض عدد الزائرين بسبب الظروف السياسية. والغريب أنني وجدت هذه الروح لدي الكثيرين هنا، بل شاهدت ذلك بشكل عملي من خلال فنادق جديدة يجري تنفيذها وبتكلفة كبيرة وبطابع جمالي يستحق الإشادة، وهو يدل علي أمل كبير في انزياح الغمة التي تجثم علي صدر البلاد. وفي أن يواصل الفن تحقيق معجزاته في البناء والانفتاح علي العالم وتقديم الخير والجمال للناس.
وفي مكان مجاور كان محمد محمود يعرض آنيته ذات الطابع المختلف، فهنا رغم أن الجميع تدربوا لدي إيفيلين إلا أن لكل منهم أسلوبه وطابعه. خاض محمد تجربة عمل محترفه الخاص منذ سنوات، بدأه بالشراكة مع أحد زملائه ثم سافر إلي الأقصر وفتح هناك مدرسة لصناعة الخزف، وأخيرا عاد إلي تونس وأسس مكانه الخاص، يعتمد محمد علي أسلوب خاص في مزج الألوان وهو أحد المشاركين في تنظيم مهرجان الخزف السنوي الذي بدأ قبل عامين وأصبح موجودا علي الخارطة السياحية ويقام في نوفمبر، وإن كان سيبدأ من هذا العام في التحول من مجرد فعاليات تقام لمدة ثلاثة أيام إلي حدث يستمر لمدة ستة أشهر تتخلله احتفاليات وأحداث أسبوعية ليحقق مزيدا من الرواج والترويج السياحي للقرية. خصوصا مع تعدد الفنادق والمنتجعات.
قبل عدة أعوام لم يكن في تونس سوي منتجع واحد مبني بالطين علي طراز ريفي بديع، وكان مبادرة سباقة من الكاتب عبده جبير الذي قرر الابتعاد عن زحام القاهرة والعيش في هدوء وجمال المنطقة. الآن أصبحت هناك عدة أماكن. داخل أحد هذه المنتجعات التقيت بشريف سوبيك أحد أبناء القرية الذي اختار العمل في مجال التنمية السياحية. أسس منتجعا ويقوم بتنظيم رحلات سفاري إلي وادي الحيتان وغيره من أماكن مثل (ماجيك لاك) ومدينة ماضي وجبل المدورة سواء بسيارات الدفع الرباعي أو بالجمال أو الأحصنة، وهو الآخر يعترف بأن تونس صنيعة تلك المبادرة الفنية التي أحالت القرية إلي ما هي عليه. يهتم شريف أيضا بالزراعة العضوية ويقيم معرضا للخزف لشقيقه. ويحرص علي أن يعرف السائحين بالطعام والأغاني المصرية.
ويفضل الكثيرون الآن جعل قرية تونس مركز إقامتهم خلال زياراتهم إلي الفيوم وذلك لعدة اعتبارات منها نوعية الفنادق البيئية ورخص أسعارها وتدرج مستواها، وجمال البحيرة في هذه المنطقة ووجود الخزف ورحلات السفاري ورياضة ركوب الخيل وأيضا لقربها من مناطق السفاري حيث تقع قبل كيلو متر من بداية طريق وادي الريان ووادي الحيتان ومدينة ماضي وقصر قارون، وهي قريبة من عين السليين أيضا وليست بعيدة عن مدينة الفيوم نفسها. والأهم هو حالة الهدوء الأسطوري الذي يخيم علي القرية مع الغروب كل يوم.
والحقيقة أن قرية تونس تعتبر نموذجا يجب دراسته لأنه تجربة عملية علي إمكانات السياحة الريفية وعلي دور الفنون والحرف التقليدية في صناعة قرية وتحويلها لتكون مكانا سياحيا. هذه التجارب موجودة بكثرة في دول مختلفة من العالم وبعضها دول عربية مثل تونس والمغرب، ولكنها تحتاج إلي قناعة ودأب خصوصا مع زحف العشوائية علي الريف، وذلك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ورش فنية ومتحف للكاريكاتير..
مركز الفيوم للفنون بؤرة إشعاع ثقافي
منذ بدأت الفنانة إيفيلين تجربتها الفريدة في قرية تونس، بدأت القرية تجذب الفنانين ومحبي الثقافة والحياة الريفية، وكان من هؤلاء الفنان التشكيلي محمد عبلة الذي وقع في حب المكان قبل ثلاثين عاما وبدأ خطوة بخطوة في إنشاء مركز للفنون بدأه بمتحف للكاريكاتير يعد الأول من نوعه في الشرق الأوسط وقد أعيد افتتاحه مؤخرا بعد تطويره، كما يستضيف فنانين من أنحاء العالم من خلال ورش عمل، بحيث يعتبر المركز ملتقي ومركز إشعاع ثقافي. لذلك كان لا بد أن أزور هذا المكان الذي لاحظت أنه ينمو مع الوقت.
لم يكن محمد عبلة بالمكان لانشغاله في أحدث معارضه بالقاهرة (البحث عن الضوء) الذي أقيم في المركز المصري للتعاون الدولي بالزمالك. الذي يضم لوحات لمناظر طبيعية من الفيوم وشاطئ بحيرة قارون. لكنني التقيت بصديقه جون الفنان الإنجليزي الذي يشارك مع مجموعة من الفنانين من دول مختلفة ضمن مشروع فني بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية. يقوم الفنانون بالعمل علي الفنون المصرية ولكن من خلال مدارس الفن الحديث. تضمنت الأعمال التي شاهدتها مختلف الفنون تقريبا من رسم ونحت وخزف وتشكيل في الفراغ أو أعمال مركبة وجرافيك. يقوم جون بعمل خارطة مصر من منظور فني حداثي علي مجموعة من اللوحات الورقية. وقامت إحدي الفنانات بوضع شعارات وأمنيات علي أكياس قماشية ممتلئة بالرمل، وقام آخرون بالرسم والنحت. المكان يستضيف فنانين من دول العالم ويصنع حالة من التبادل الثقافي.
وداخل مبني مميز من الطين علي طراز مصري كانت جولة ممتعة داخل متحف الكاريكاتير حيث أعمال لكبار فناني الكاريكاتير مثل صاروخان وصلاح جاهين وحجازي وطوغان ورخا وغيرهم. المبادرة تستحق الإشادة خصوصا لتواجدها في هذا المكان حيث كسر حالة الاحتكار الثقافي التي تمارسها القاهرة والإسكندرية من ناحية وثانيا للمساهمة في خلق حالة تونس القرية السياحية التي أسست علي الفن. ويضم متحف الكاريكاتير حوالي خمسمائة عمل تمثل فن الكاريكاتير من العشرينيات وحتي الآن.
فكرة المركز بشكل عام نموذج لما يجب أن يقوم به الأشخاص من المبدعين ومحبي الفنون، حيث يقوم الكثيرون بعمل أتيليهات خاصة أو بيوت فنية للاستعمال الشخصي لكن نادرا ما نري مبادرات من هذا النوع وإن كانت التجربة تحتاج إلي مزيد من الدعاية والترويج، فالنشاط الثقافي والفني بحاجة إلي النزول من حالة الترفع التي عزلته عن المجتمع لعقود، وهي الحالة التي يدفع الوطن كله ثمنها الآن. وأتصور أن المكان يمكن أن يتوسع في نشاطاته وأن يتم دعوة أعداد أكبر من الفنانين المصريين لعل التجربة تكون حافزا لإنشاء مشاريع مشابهة أو مكملة في المكان أو أماكن أخري لإكثار البؤر التنويرية، ومراكز الإشعاع الفني والثقافي.
المكان به مجموعة من الأعمال التلقائية من الواضح أنها نتاج إقامات سابقة لفنانين بالمركز.
أقام المركز عدة مشروعات فنية منها المشروع الذي عمل خلاله خمسة عشر فنانا من بلدان مختلفة علي وجوه الفيوم، عام 2010حيث كان العمل يتم بنفس تقنية الوجوه الشهيرة بالشمع والأكاسيد، مع تناول يختلف من فنان إلي آخر ورؤي مختلفة.
شلالات وبحيرات وطيور نادرة..
وادي الريان.. محمية طبيعية ومتنزه لا مثيل له
رغم تعدد الزيارات لمحمية وادي الريان ببحيراتها وشلالاتها والمناطق المحيطة، إلا أنه لم يكن من الممكن إتمام رحلة البحث عن كنوز الفيوم دون المرور بالمكان. كان الانطلاق في الصباح الباكر بمحاذاة بحيرة قارون التي تكون فضية في هذا الوقت، ثم الانعطاف يمينا بعد كيلومترات قليلة من قرية تونس، لتقطع طريقا مرصوفا يمتد لنحو خمسة وثلاثين كيلو مترا في قلب الصحراء. في الطريق تمر ببوابة المحمية حيث دفع جنيهات قليلة لقضاء اليوم أو للتخييم، ثم تبدأ البحيرة العليا في الظهور بلون أزرق وسط الصحراء يتخللها بعض النتوءات الصخرية والجزر الرملية. مشهد مبهج سرعان ما تنعطف يمينا لتقترب من منطقة الشلالات، حيث تبدأ البحيرة السفلي في الظهور.
هناك حكايات عديدة تتعلق باسم المكان أشهرها هو أن الريان بن الوليد نزل بجيشه في المنطقة وأقام فيها وعاشوا علي عيون الماء، طبعا قبل تكون البحيرات والشلالات حديثا. بينما يري آخرون أن للتسمية أصلا في المصرية القديمة حيث كانت مأهولة ومزروعة خلال القرنين الأول والثاني الميلادي. وهو في الحقيقة ليس واديا لأنه مقفول من الجهتين ولكنه أشبه بمنخفض. ويفصله عن منخفض الفيوم كتلة من الحجر الجيري عرضها حوالي 15كيلومترا. وتقدر مساحته بضعف ونصف مساحة بحيرة قارون ويستوعب ضعف كمية المياه. إلا أنه في الوقت الحالي قل تدفق المياه إلي البحيرات وعبر الشلالات وهو ما يشكو منه البعض حيث أثر ذلك علي مجري المياه أسفل الشلالات والتي أصبحت ضحلة ولا تسمح بدخول المراكب إليها للتصوير أسفل الشلالات وتقتصر علي جولات في البحيرة. ويرجع البعض السبب في ذلك إلي المزارع السمكية. والمراكب في البحيرة إضافة حقيقية لمقومات المكان وقد حصلت علي جولة بها وكانت ممتعة، وتمكنت من متابعة الطيور علي الضفة الأخري والاقتراب منها وتصويرها. والمنطقة جاذبة لعدة أنواع من الطيور وبعضها من الطيور المهاجرة.
وبسبب موقع وانخفاض المنطقة كانت هناك أفكار ودراسات سابقة بشأن تحويلها إلي بحيرة لتخزين مياه الفيضان. بدأت الأفكار في عهد محمد علي واستمرت حتي منتصف القرن العشرين حتي طغت فكرة السد العالي. ولأن المنطقة أكثر انخفاضا حتي من منخفض الفيوم نفسه فقد كانت مناسبة لصرف مياه الري الزائدة إليها حيث تكونت البحيرتان.، وذلك بدلا عن صرفها في بحيرة قارون التي فاضت مياهها وأعطبت الأراضي المجاورة. ويوجد حاليا زيادة في منسوب قارون يستدعي تدخلا سريعا لأن المياه تقطع الطريق أمام أقدم فنادق الفيوم.
وتحتوي منطقة وادي الريان علي صور للحياة البرية تتمثل في الغزال الأبيض والغزال المصري وثعلب الفنك وثعلب الرمال وبعض أنواع الصقور.
وتضم محمية الريان منطقة وادي الحيتان والذي يبعد بحوالي أربعين كيلومترا عن الشلالات، وتوجد به هياكل متحجرة لحيتان وكائنات بحرية وبرية عمرها أربعون مليون عاما. ولها أهمية كبيرة من الناحية العلمية. وهي ترجع إلي عصر انحسار المحيط الذي كان يغطي المنطقة حيث انعزلت بعض الكائنات في هذه المنطقة، ومع وجود دلتا لنهر مندثر كانت الحياة تضج بتنوع بيولوجي كبير. ويمكن للسائرين في المنطقة أن يجدوا أسنانا متحجرة لأسماك قرش قديمة وفقرات عظمية صغيرة بخلاف الهياكل المكتملة التي تضع إدارة المحمية حولها سياجا من الحبال. ويسمح بالتخييم في المنطقة بعد الحصول علي تصريح ودفع رسوم زهيدة. وقد لاحظت وجود بعض الرحلات المدرسية من الأماكن المجاورة سواء ضمن محافظة الفيوم أو بعض مناطق شمال الصعيد. ويمكن للمنطقة أن تعيد صياغة منظومة متكاملة لتنظيم رحلات السفاري والتخييم سواء حول البحيرات أو في وادي الحيتان. وذلك تنشيطا للسياحة الداخلية، كما يمكن عمل منظومة متكاملة للسياحة البيئية تقوم علي استغلال أفكار للمعمار البيئي والحرف التقليدية إلي جانب استغلال المكان بإمكانياته الطبيعية مع إشراك سكان المناطق المجاورة في عملية تنموية متكاملة، خصوصا أن المنطقة محاطة وقريبة من عدة مزارات تبدأ بقرية تونس علي بحيرة قارون وتمتد إلي قصر قارون ومدينة ماضي الأثرية وجبل المدورة والعيون وغيرها.
وهكذا اختتمت الرحلة إلي أرض الأسرار لتبدأ رحلة العودة من جديد صوب بحيرة قارون ثم طريق الفيوم القاهرة، وليتأكد لدي أن الكنوز المخبأة علي أرض الفيوم أكبر بكثير من أساطير كنوز قارون التي في قاع البحيرة المسماة باسمه.
فنان تلقائي
بلا أدوات..
الحجر يتكلم علي يد جلال الفيومي
التقيت به في القاهرة أكثر من مرة. كان بصحبة أعماله التي يسعي للمشاركة بها في المعارض والفعاليات الفنية. ويشارك بها جنبا إلي جنب مع أعمال كبار الفنانين التشكيليين. لفتت نظري منذ الوهلة الأولي موهبته الفطرية، وقدرته علي تطويع الأحجار، وترويض الأخشاب ليصوغ منها وجوها بدائية أو تشكيلات أسطورية قادمة من عالم ملحمي. أو أعمالا تعبيرية مباشرة ومدهشة. لكن حكاية الفنان جلال الفيومي لا تقف عند حد منحوتاته. فحياته ذاتها عمل فني عنوانه الموهبة في مواجهة صعاب الحياة. لذلك فما إن وطئت قدماي أرض الفيوم حتي بدأت رحلة البحث عنه. ولما توصلت إلي نمرة تليفونه بدأت رحلة طويلة بالسيارة من قرية تونس إلي مدينة الفيوم ومنها إلي قريته النائية ضمن مركز إطسا. ولما وصلت إلي قرية قلمشاة اكتشفت أن هناك قرية أخري تحمل نفس الاسم، وداخل شوارع قلمشاة الثانية رحت أسأل عنه حتي وصلت إلي بيته.
بدأ الفنان الذي انتصف عقده السابع حبه للفن وهو طفل في المدرسة، لكن رغم تفوقه وحصوله علي المركز الأول علي محافظة الفيوم اضطر بسبب فقر أسرته إلي ترك التعليم، ليواجه صعاب الحياة، وليعيش كشخص عادي ويمارس أعمالا بسيطة. يفتخر جلال الفيومي بدخوله الجيش عام 66وبكونه في كتيبة الثغرة عام 73 وبحصوله علي نوط الشجاعة. لكن السنين مرت وقد نسي فنه أو بمعني أدق لم يجد أي فرصة لممارسته. حتي كان عام 99 عندما كان يقوم بعمل سلم حجري لبيته الريفي البسيط. وكانت لحظة الحظ عندما انكسرت إحدي درجات السلم. حزن أهل البيت لكنه رأي في القطع المكسورة مادة خام لأول ثلاثة تماثيل قام بتنفيذها، ليواصل حبه القديم للرسم والفن والذي حرم منه منذ اضطر لترك المدرسة. لم تكن لديه أدوات للنحت فاستخدم المتاح أمامه من مفك قديم أو صفيحة منشار صدئة، لكن طاقته الفنية كانت كفيلة بأن يخرج أعمالا فنية علي قدر كبير من الجمال. والمفارقة أنه ما زال حتي الآن يعمل بلا أدوات، حتي بعد أن شارك في العديد من المعارض ونالت أعماله إعجاب الجمهور وكبار الفنانين. لكنه لم يخف علي حاجته إلي أدوات لتسهل له العمل وتجعله أسرع وأكثر إتقانا. يحصل الفنان التلقائي جلال الفيومي علي سعادته بعرض أعماله في القاهرة وقصر ثقافة الفيوم وفي عين السليين. ويفتخر بقدرته علي التعامل مع كل الخامات من الخشب إلي حجر الصوان والجرانيت والجلمود والحجر الجيري وغيرها.
تحكي أعماله موضوعات مباشرة، ويحب أن يشرحها لجمهوره. لديه تمثال عن الثورة كما يراها وهو عمل من الخشب يضم أشكالا آدمية ورموزا. يري أن الثورة حالة توحد لكل طوائف الشعب وأنها نجحت بفضل التلاحم لكنه يصور حالة الخيانة التي تعرضت لها.
قد يندهش الكثيرون عندما يعلمون أن عمله الأساسي هو سمكري وبالطبع الطلب قليل في القرية، لكنه سعيد بنظرات الإعجاب التي يتلقاها وهو يمارس النحت في أوقات الفراغ الطويلة أمام منزله، أو في حجرة صغيرة مكدسة بالأعمال في مقدمة البيت.
عندما وصلت إليه كان قد أخرج بعض أعماله لعرضها في ضوء النهار أمام البيت، وقد تجمع أطفال القرية ليشاهدوها وكان سعيدا ومرحبا بهم. كما مر بعض من أهل القرية وكان يشير إلي بعضهم بأنهم ساعدوه أو دعموه. لم يجن الكثير من المال من بيع أعماله التي يهدي بعضها، لكنه ما زال يعمل بدأب وحب.
تتميز أعماله بالبساطة والمباشرة، وبعضها يحمل ملمحا فرعونيا وهو ما تسبب له في مشكلة ذات يوم عندما تم القبض عليه وبقي في الحبس أكثر من عشرين يوما حتي تبين أنها ليست قطعا أثرية.
بعض أعماله تشعرك بألفة، وكأنك قد رأيتها من قبل، وبعضها غريب وطازج، وبعضها فج وبدائي، وهو ما يعكس حالة تمرد ورغبة في التجديد، لكن جلال الفيومي مؤرق بالبحث عن المعني وبجعل تماثيله تردد مقولاته الخطابية.
ويظل مع كل ذلك صاحب بصمة فنية وإنسانية، وقصة تستحق أن تروي وتبقي أعماله بحاجة إلي مزيد من الاهتمام، كما يؤكد الفن التلقائي علي قدراته اللامتناهية في التعبير ببساطة عن أفكار وهموم شرائح عديدة من الناس، ويظل قادرا علي إمتاعنا وإدهاشنا. تحية للفنان ولكل الممسكين علي جمر الإبداع رغم كل الظروف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.