تحتضن بحيرة قارون علي ضفافها لوحة فنية طبيعية خلابة إنها قرية "تونس الجبل" التابعة لمركز يوسف الصديق بالفيوم أو كما يسميها عشاقها "تونس الخضراء" فقد تكاتفت كل المقومات الطبيعية بها من مياه زرقاء وصحراء صفراء وأشجار خضراء لتصوغ هذا الجمال الطبيعي الذي يتشابه إلي حد كبير مع الريف الأوروبي. وكان لتلك المنحة الربانية الفضل في لم شمل مئات الفنانين والأدباء من جنسيات مختلفة خاصة الإيطالية والسويسرية للسكني بأراضيها وإطلاق عنان إبداعهم في أرجائها. وبالطبع استطاعت أعمالهم الإبداعية هذه جذب نظر المجتمع الأوروبي إليها ليتساءلوا بشغف عن صاحبة ذلك الإلهام حتي إن الاتحاد الأوروبي أوفد لجنة لدراسة المعالم الجمالية بها تمهيدا لإنشاء أكبر مشروع سياحي تشهده مصر هناك. (آخرساعة) حزمت حقائبها وقررت زيارة تلك القرية التي أبهرت عظماء الكتاب والفنانين من جميع الجنسيات فآثروا الاستقرار بها. ما إن تطأ قدماك أرض قرية "تونس" التي تبعد نحو ساعة عن القاهرة، سرعان ما يبهرك ذلك المنظر الخلاب الذي ستصطدم به فهو أشبه بلوحة فنية طبيعية تقبع في أحضان الريف الفيومي وتقع علي تل صخري مرتفع أخذ في الانحدار ليجاور بحيرة قارون تلك البحيرة التي أضفت علي المكان جلالا وهيبة لايضاهيها شيء آخر واستطاعت هي الأخري أن تجذب عشرات الطيور النادرة لتعيش علي ضفافها وتزيد من روعة القرية، هذا بخلاف بساتين الفاكهة وأشجار الزيتون المتناثرة في كل ناحية. وبتجوال بصرك بين شوارعها ستصطدم بكثرة اللافتات المكتوبة بلغات من جميع أنحاء العالم فالقرية تضم بين جنباتها أكبر تجمع للفنانين العالميين من جنسيات شتي خاصة الإيطالية والسويسرية الذين وجدوا فيها متنفسا لمواهبهم وفنونهم فاستوطنوها وبنوا فيها فيللات خاصة بهم علي الطراز الأوروبي إضافة إلي الفنادق السياحية التي بنيت خصيصا لاستقبال زوار القرية الكثر. أما سكان القرية الأصليون فلا يتجاوز عددهم الأربعة آلاف نسمة يمتهنون الزراعة وصيد الأسماك وبعضهم اتجه للعمل في تلك الفنادق التي فتحت بابا للرزق إضافة للعمل كمساعدين لهؤلاء الفنانين أو خدامهم الخاصين والمفارقة العجيبة أنهم يعيشون بعيدا عن تلك البقعة الأوربية فتقهقروا إلي الناحية القبلية من القرية يراقبون عن كثب ذلك المشهد الحضاري الذي قلما يتكرر في محافظة أخري غير الفيوم. والغريب أن ولادة هذا الحلم العالمي جاء بمحض الصدفة فمنذ أكثر من خمسة وعشرين عاما جاء الشاعر سيد حجاب وزوجته السابقة "إيفلين" السويسرية الجنسية إلي القرية لحضور أمسية شعرية، وسرعان ماوقع الاثنان في حب القرية وهاما بها عشقا خاصة الزوجة التي عاهدت نفسها أن تساهم في جعلها قطعة من الريف السويسري الذي تنحدر منه. وبالفعل بدأت السيدة إيفيلين التي تعتبر الأم الروحية لذلك الثراء الفكري الرائع العمل فدعت زملاءها النحاتين وصانعي الخزف إلي زيارة تلك البقعة وتقييمها تقييما فنيا ومعماريا وبدأوا في استيطانها وممارسة هواية صنع الخزف التي طالما عشقوها وأبدعوا فيها وقد وجدوا في تلك البيئة كل مايحتاجونه إضافة إلي جود وكرم أهلها الطيبين. وأرادت تلك السيدة أن ترد الجميل لأهل البلدة فقررت إنشاء مدرسة لتعليم الأطفال الصغار فن صناعة الخزف وأطلقت عليها اسم"بتاح"وهو اسم فرعوني أصيل يعني المحب وبدأت باستقطاب من تجد فيه تلك الموهبة فنجحت الفكرة نجاحا كبيرا حتي أنها جابت معارض العالم بمنتجاتهم التي لاقت قبولا وترحيبا من عشاق هذا الفن خاصة أن معظم تلك المنتجات كان من خير طبيعة الفيوم وطين أرضها. ولم تكن إيفيلين وحدها من عشقت هذه القرية بل هناك المئات من الفنانين والكتاب والأدباء حتي أنهم أطلقوا عليها قرية "المشاهير" الذين أتوا من بلدان عديدة واقتنعوا بفن عمارة الفقراء الذي أبدعه المعماري العالمي حسن فتحي الذي يعتمد علي بناء البيوت بالطوب اللبن علي الطراز النوبي ذي الميزات الجمة أهمها قدرته علي التكيف مع درجات الحرارة المختلفة مما يسمح له بأن يظل باردا في فصل الصيف ودافئا في الشتاء وكان من أهم هؤلاء المشاهير الأديب والمترجم العالمي "دينيس ديفيز" الذي يعتبر أول من قام بترجمة روايات أديب نوبل نجيب محفوظ إلي الإنجليزية. ولم تكتف (آخرساعة) بالحديث مع الفنانين الذين استوطنوا القرية حتي أن كثيرا منهم اعتبرها مكان مولده ونشأته الفنية ولم يبرحها منذ أكثر من عشرين عاما بل انتقلنا أيضا للحديث مع سكان القرية الأصليين الذين لايختلفون كثيرا عن فلاحي مصر البسطاء، يخرجون منذ بزوغ نور الفجر ليمارسوا أعمالهم اليومية كالزراعة والرعي وبعضهم يعد عدته ليخرج بقاربه إلي بحيرة قارون عل الله يرزقه ببضعة كيلوات من السمك ليبيعها ويشتري مايسد رمق أسرته الكبير، إلا أن بعضهم تأثر بالتجمع العالمي للفنانين والأدباء لتتفجر مواهبه الفنية علي السطح ويقرر سلك هذا الدرب فيعمل في صناعة الخزف أو تأليف المقطوعات الموسيقية وغيرها من أشكال الفنون المختلفة. أما الفئة الأكبر فقد استفادت من موقع القرية السياحي وشهرتها فاتجهوا لبناء الفنادق البسيطة لاستقبال الضيوف الكثيرين وبعضهم أنشأ المطاعم الخاصة بإعداد الأكلات الفيومي الشهية التي ساهمت أيضا في شهرة القرية. يقول الحاج بيومي السبع 55 عاما: عرفت قريتنا باسم تونس الجبل وكانت قرية مهجورة استوطنها الذئاب والحيوانات الضالة حتي وفدت إليها بعض القبائل من شبه الجزيرة العربية واستوطنتها ولهذا فإن نسب الكثير منا يرجع إلي تلك القبائل وقد استفادوا من موقع القرية الرباني فعملوا في صيد الأسماك وزراعة أشجار الزيتون بالصحراء الشاسعة المحيطة بالقرية ولم يفكروا في أبعد من هذا، واستمر هذا الحال علي ماهو عليه حتي عام 1963 عندما جاء لزيارتها الشاعران الكبيران سيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودي لحضور أمسية شعرية عن مواويل القبائل العربية وسرعان ماوقعوا في حب القرية التي حباها الله بطبيعة خاصة من مياه صافية وأرض عفية وخضرة في كل مكان فدعوا زملاءهم من أصحاب الفنون المختلفة لمعاينتها علي الطبيعة. ويقول محمود عتريس 23 سنة: اتجه الكثير من أهالي القرية للعمل في صناعة الخزف بعد أن تعلموا الصناعة في مدرسة السيدة إيفيلين التي نعتبرها من أهالي القرية فقد عاشت في مصر منذ أكثر من 44 عاما واستوطنت قريتنا قبل أن يولد الكثير منا ولم تهجرها أبدا حتي أن ابنتها الوحيدة تزوجت من أحد رجال الأعمال المصريين بعد أن وقعت في حبه بتشجيع من والدتها التي عشقت كل مايحمل الجنسية المصرية. أما العدد الآخر فيمارس عمله اليومي في الزراعة كما أن هناك مهنا أخري ظهرت كنتيجة طبيعية للنشاط السياحي في القرية مثل أعمال اللاندسكيب والحراسة والعمل في الفنادق والمطاعم السياحية في القرية وهذه أتاحت فرص عمل للشباب الفيومي الذي يأتي خصيصا للعمل بالقرية بعد تفشي نسب البطالة بالمحافظة. وعلي نفس النهج المعماري للفنان حسن فتحي تم تصميم البيوت والفنادق داخل سويسرا الشرق بالفيوم، فمن أول وهلة تأخذك روعة التصميم المعماري الذي يتميز بالبساطة والطلاء المنقوش الجامع بين كل العصور التي عرفتها الحضارة المصرية وتكوينه الذي يرتفع عن سطح الأرض سوي بطابق واحد وفنائه الداخلي الذي يحتضن غرف المنزل في خصوصية تضمن لساكنيه الرحابة والحياة المريحة، ذلك هو حال البيوت البيئية داخل تونسالفيوم هي تحفة معمارية ببساطة تصميمها، وطلائها المميز بنقوش تجمع بين كل العصور التي عرفتها الحضارة المصرية. وعندما التقينا بالحاج سيد عبد الستار وهو أحد تلاميذ الفنان حسن فتحي والمسئول عن تصميم وتشييد الفنادق والبيوت البيئية "بتونس" فذكر أنه تتلمذ علي يد الفنان حسن فتحي وطبق الطراز المعماري له بتونسالفيوم لأنها تتميز بطبيعة خاصة لما تحوي من شخصيات إبداعية وفنية إضافة إلي طبيعة الفلاح البسيط وأهل الريف والموقع الفريد وإطلالتها علي بحيرة قارون . يشير الحاج سيد أن مكونات البيوت البيئية لها طبيعة خاصة توفر لسكانها عدم التأثر بدرجات الحرارة الخارجية فهي تصنع من الحجارة والرمل والطين وتتفاوت مساحته تبعاً للأرض المقام عليها، إضافة إلي جذوع النخل التي تزين النوافذ وأسقف وأسطح المنازل علي هيئة قباب من الطوب اللبني تشبه أنصاف البراميل وإقامتها من اللبن الممزوج بجريد النخيل وجذوعه. فيتميز البيت البيئي بتونسالفيوم بوجود سور خارجي به بوابة من الطوب اللبن تعلوها باكية يغلقها باب خشبي تقودك تلك البوابة إلي فناء مكشوف تحيط به غرف الدار من جميع الجهات والجدير بالذكر أن بعض البيوت تضيف نوعا من الحداثة إليها بعمل حمام سباحة في وسط أو أمام المنزل كما تبني الجدران الخارجية للبيت علي قطعة مربعة أو مستطيلة من الأرض تتسع لصحن داخلي تتوسطها مكونات الدار وهي مدخل البيت. وبالنهاية يقول الحاج سيد عبد الستار : إن الجميع يرغب في بناء بيته علي طراز البيوت البيئية لأنه يحل مشكلة الغلاء في الخامات ويوفر لكل فلاح منزل في الريف بتكلفة اقتصادية منخفضة، وقوم بتصميم البيوت سواء لأجانب أو أهالي الفيوم وتشيدها بأسعار تتناسب مع دخل الفلاح وتوفر له الراحه والجمال بخلاف التميز والشكل الجمالي، كما أن الجميع يرغب في الاتساق مع تونس الشرق بحيث يكون قطعة منها لاتفرقه عن أي فندق أو فيلا لاحد الفنانين داخلها.