يبكى ويصرخ قائلا: يا ابتى أبعد القصور والمُلك والجاه، السجن في حجرة ظلماء كهذه؟! فرد عليه أباه: يا بنى انها دعوة مظلوم سارت إلى الله بليل غفلنا عنها نحن ولم يغفل عنها الذي لا ينام، تلك الجملة قيلت عندما انتهت الدولة البرمكية وسجن خالد بن برمك مع ابنه في حجرة واحدة بعد العزة والسلطان. يالها من عظة لمن يريد أن يتعظ، فهل اتعظ من كان عليه أن يتعظ؟! في تلك الحجرة يقينا مازال صدى صوت تلك الحروف يهز كل ركن فيها، مازالت حوائط تلك الحجرة حتى وإن كانت هُدمت تهتز وتقشعر كالأبدان، مازالت احجار هذه الغرفة حتى وإن كان مكانها الآن تحت التراب ترتجف من الخوف من المجهول الذي حملته بين طياتها تلك الدموع التي سالت من عين هذا الابن، فهل وضع صدى هذا الصوت نصب عينيه من كان يجب عليه أن يضعه كذلك؟!. كان يجب عليه الا يفارقه صدى ذلك الصوت المميت، ولكنه من الواضح أنه وضع يديه فوق اذنيه متجاهلا ذلك الصدى ظننا منه أنه لن يلقاه في الطريق .. ولكن ها هو الصدى يلتقيه في ربع الطريق ليقوده إلى مصير خالد بن برمك، وبعد أن قذفه صدى ذلك الصوت إلى مصير ظن أنه سيهرب منه فهل سيجلس مع نفسه ليراجعها ويبحث عن السر الإلهى الذي قاده إلى ذلك كما فعل ابن برمك واعترف انها دعوة مظلوم؟. هل سيعترف أن سبب ما هو فيه قد يكون لأنه تآمر على استقلال وطن ؟ الا أنه اراد فقط الهروب من الواقع ومحاولة العيش في عالم افتراضى من نسج خياله، ووضع قدميه على الارض حاول أن يتماسك حتى لا تفضحه نظراته الزائغة، تأخر لحظات في ترتيب ملابسه بسبب ارتباكه، ظن أن في تلك اللحظات الشعب في الخارج بالملايين وانه الآن سيثور وسيذهب ليحطم كل شئ لإحضار الرئيس الواهم بأنه الشرعى ليملأ به كرسى العرش الذي فقد بريقه منذ رحيل زعيمهم الهمام، الا أن الشعب لم يحضر كما وعدوا، وتوارى وراء القضبان ذلك الرجل الذي يمتلك قدرة على انكار الواقع لدرجة تصل إلى حد وجوب الخضوع للعلاج النفسى. كل خطوة من خطواته نحو القفص كانت كالحجر الذي وضع بجانب خارطة المستقبل ليسندها أكثر وأكثر، جاء بملابس ذكرتنا بما كان يرتديه عندما فتح رداءه في التحرير صارخا " ليس هناك شرعية تعلو فوق شرعيتكم"، وها نحن قد سمعنا بنصيحته، وملأنا له الميادين لكى نسقطه بعد أن صم اذنيه عن ذلك الصوت الذي أتى من الماضى البعيد، ووضع غمامة على عينيه كى لا تذكره بالماضى القريب وذلك المشهد الذي ظهر فيه مبارك نائما ذليلا على سريره خلف القضبان. يا صاحب الوعد الكاذب بتطبيق الشريعة، كان عليك منذ البداية وزن الأمور بميزان القاضى عاقبة بن يزيد الذي دخل يوما على حاكمه وقال له: يا امير المؤمنين أقلنى من القضاء فرد عليه: وما للعدل غيرك يا عاقبة؟! فرد القاضى: لقد اختصم اليَ شخصان في أمر لم استطع التوفيق بينهما فيه، وكلما أجلته ليتصالحا استمرا على ما هما فيه، ويوما ما بينما انا في منزلى احضر لى الخادم طبقا من الرُطب والناس تعلم انى احب الرُطب، فسألت الخادم من أتى بهذا؟ فوصف لى صاحب الطبق، فعلمت أنه أحد المتخاصمين، فقلت لخادمى رد له الطبق، ولما جلست اليوم لكى احكم بينهما لم يستويا في نظرى رغم انى رددت الطبق، فعلمت أن قلبى اضعف من أن اتحمل تلك المسئولية... يا صاحب الأهل والعشيرة والوعد بتطبيق الشريعة عندما كنت حكما بين السلطات واختصمت إليك دماء جيكا وإسلام طفل دمنهور البريء صاحب الجذور الإخوانية فماذا فعلت ؟ هل استويا في نظرك؟ ألم تزر زوجتك أم إسلام ولم تزر أم جيكا؟ فهل كانت دموع أم جيكا اقل وزنا من دموع أم إسلام؟ هل كان احتراق قلب الاولى لا يساوى في نظرك احتراق قلب الثانية؟.. وها هي عدالة السماء جاءت لتنتزع منك المُلك بعد عام، هددتنا بأمريكا فأين هي منك الآن؟؟ فأكبر رأس فيها اعترف بثورتنا بعد أن أيقن أن الضغوط لن تأتى بجديد، اطلقت علينا زبانيتك في الشوارع فأين هم الآن؟؟ اختبئوا في الجحور حالقين لحيتهم، عليك أن تعلم - وهذا ما اظنه - ان مبارك الذي فسد وظلم صبر الله عليه وانتزع منه المُلك بعد ثلاثين عاما ولكنه عز وجل انتزعه منك بعد عام فقط لأنك تاجرت بدينه. يا من تحكمون مصر الآن من الواضح أن مفهوم الثورة لم يخترق بعد جدار عقولكم السميك، احذروا جميعا صدى ذلك الصوت .. لن ينجيكم منه أي تحصين، حصنوا قراراتكم كما شئتم بقوانين تحميها، افعلوا ما تريدون، ولكن لا مفر من نفس المصير إذا اخطأتم أو كنتم اخطأتم فسوف تصل اليكم عدالة السماء اينما كنتم .. واذكركم بالامس القريب فهناك رجل حاول أن يحصن قراراته ولم ينفعه تحصين.