تدل الكشوف الأثرية أن المدن في مصر قد بدأت في الوجه البحري في خلال العهد الحجري الحديث وأنها كانت تفوق المدينة التي ظهرت في الوجه القبلي ثم استمر الحال كذلك بشكل واضح في عصر بداية المعادن، والحضارة في الوجه البحري كانت تتدرج في التقدم بخطى واسعة عن التقدم والترقي في الوجه القبلي، ويرجع السر في ذلك إلى الموقع الجغرافي والطبيعة البيئية لكل من الوجه البحري والوجه القبلي. أما الدلتا والوجه البحري حيث كانت تتآلف الدلتا من سهل مترامي الأطراف لا يتخلله حال وهو منفصل عن الصحراء تماما، ولذلك كانت الفرصة سانحة لسكان الأول ليكونوا أهل حضر، ويمكنهم أن يتقدموا وينعموا بحياة العمل في عقر دارهم دون أن يتنقلوا من مكان لآخر طلبا للرزق، ولقد ساعدهم على ذلك أن أرض الدلتا تمتاز بخصوبة تربتها وطيب جوها، هذا إلى أنها تقع على مفترق طرق أفريقية، مما سهل لها الاتصال بالممالك القريبة منها، فتجلب إليها الخبرات الزراعية، وتحف صنعاتها وفنونها، وبذلك تضيف إلى مدنيتها الأصلية مدنية جديدة، ولهذا فإن أرض الوجه البحري في كل عصور التاريخ أعرض مدنية من الوجه القبلي وأكثر تقدما. لكن الوجه القبلي قطر طويل محصور بين سلسلتين من الجبال القاحلة، وهذا القطر متصل بالصحراء من كل مكان، وفي هذا العهد لم تكن أرض الصحراء الحالية ميدان صيد وقنص لأهل الوادي الضيق نفسه، وكل ما نعلمه أن أرض الصحراء الحالية ميدان صيد وقنص لأهل الوادي الذين كانوا يعيشون في مدن وقرى، ولما كانوا يحترفون الصيد لأن ذلك في طبيعتهم منذ نشأتهم، والواقع أن أهل الصيد كانوا منفصلين عن باقي العالم بهذه الصحاري المترامية الأطراف، لم يكن أهله يختلطون إلا بالبقية الباقية من بدو الصحراء الجوالين، وهم قوم لا ثقافة ولا مدنية لهم، نضيف إلى ذلك أن المسافة بينهم وبين أهل الدلتا كانت بعيدة، فلم يكن في مقدورهم الاختلاط التام بهم، حتى يستفيدوا من مدينتهم، كذلك إن الأراضي الزراعية التي في متناولهم قليلة المساحة بالنسبة إلى الدلتا، فلم يكونوا زراعا بالمعنى الحقيقي، ولا غرابة إذا أعددناهم جبليين بالنسبة لأهل الدلتا المتحضرين. وأعظم عمل قام به المصري القديم في عصر بداية استعمال المعادن هو إعداد أرض وادي النيل الخصبة للزراعة، وقد حدث ذلك في الوقت الذي أخذت فيه أحوال البلاد تتغير من ناحية الجو تدريجيا، وقد حدث ذلك عندما أخذت القبائل الجوالة ترتكز في رجالها وتسكن القرى والمدن، وإذا كانت الأراضي الخصبة المجاورة للصحراء بما فيها من مراع طبيعية ضئيلة قد كفت لمدة ما في عصر بداية المعادن حاجة للرعاة الذين كانوا يعيشون بجوار مياه الوادي فإنها بعد فترة أصبحت غير كافية لسد حاجات السكان الذين كانوا يتدفقون من الصحراء القاحلة إلى شواطئ النيل الخصبة. ولكن العوائق الطبيعية قامت في وجههم وجعلتهم يفكرون في التغلب عليها لحاجتهم الملحة إلى طلب العيش، وكان ذلك فيضان النيل، وكان هذا الفيضان منتظما في كل عام، وكان يترك مياها راكدة في الأراضي المنخفضة تتألف منها برك ومستنقعات، على حين أن الأراضي المرتفعة كانت تجف مياهها بعد انقضاء بضعة أسابيع من اختفاء الفيضان. وكان يحتم على إنسان هذا العصر أن يساوي بين هذه الأراضي ليجعلها على مستوى واحد ليستطيع الزراعة عليها، ثم رأى أنه لزاما عليه بعد ذلك أن ينظم ماء الفيضان نفسه حتى يمكنه أن ينتفع به وقت التحاريق، فقام بإنشاء الترع والسدود التي كانت بمثابة الخزانات الآن ليصرف منها الماء عند الحاجة حتى لا يحدث قحط وهذا العمل العظيم يعد أكبر فتح قام به الإنسان الانيوليتي في وادي النيل أمام الطبيعة العاتية.