حياتي في الصحافة مليئة بالحكايات والمواقف والأشخاص، كل إنسان مر بها هو في حد ذاته فكرة وتفاعل وتجربة وجودية شكلتني بدرجة أو بأخرى.. من بين هؤلاء رجل مر كالطيف في تاريخ مهنتنا، كان معروفًا وسط جيله، لكن لم يعد أحد يتذكره رغم كثرة ما كتبه من مقالات وتحقيقات وحوارات مهمة، حتى أنه لا توجد معلومات له على محرك البحث جوجل إلا من خبر وفاته ومكان عزائه. أكتب عن واحد من أساتذتي الراحلين الذين لهم مكانة كبيرة في مكتبة ذاكرتي وأدين لهم بالفضل الكبير والامتنان والمحبة في غرف القلب وحنايا الروح، فكما يقولون: لا أحد يموت تماما، وإنما يستنفذ حياته الأولي على أمل أن يبعث في نفوس أحبته من جديد.
غنيم عبده نائب رئيس تحرير مجلة الكواكب الذي اختار كرامة بلاده وعدم الإساءة إليها مع سبق الإصرار، دون أن يستدرجه المنصب والمال والصولجان إلى التجاوز عن إهانتها أو جرح كرامتها.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي كان مديرًا لمكتب صحيفة خليجية بالقاهرة، وقبل أن يقبل المسئولية، اشترط على الإدارة مضاعفة الميزانية، وكان له ما أراد، بعدها قام بتحسين الأوضاع المالية للصحفيين والعاملين واتخذ قرارًا بزيادة رواتبهم إلى الضعف.
كان المنصب الذي يتبوأه الأستاذ يتمناه ويحلم به أي صحفي مصري، بسبب ضخامة الراتب وتودد الكل إليه طمعا في الحصول على عمل إضافي بالمكتب أو فرصة سفر للخارج، خصوصا أن معظم مديري مكاتب الصحف الخليجية كانوا يملكون مفاتيح تسفير الصحفيين من خلال علاقاتهم برؤساء التحرير هناك.
لم تكد تمضي شهور على توليه المكتب وكانت الأمور تسير على ما يرام، حتى سمعته في أحد الأيام منفعلًا وعصبيًا، فأسرعت إلى مكتبه -أنا وزملاء بعضهم مازال على قيد الحياة ويشهدون على هذه الواقعة- ووجدناه على عكس طبيعته الهادئة يتحدث مع رئيس التحرير ويحتد عليه ويعنفه بشدة وهو في حالة ثورة عارمة كما الطوفان الهادر.. ويقول له إنه لا يقبل بأي إهانة لبلاده ويطالبه بأن تكتب الصحيفة اعتذارًا على مساحة كبيرة عن مقال مسيء لمصر، ويطلب منه الحضور إلى القاهرة لتسلم المكتب منه لأنه أصبح في حكم المستقيل، وقد كان، جاء رئيس تحرير الصحيفة إلى القاهرة وتسلم المكتب بعدما اعتذر غنيم عبده عن عدم الاستمرار.
بعد أيام وأثناء ذهابي لجريدة العربي في شارع يعقوب بلاظوغلى، شاءت الصدفة والأقدار أن أرى الأستاذ غنيم وقد سقط على الأرض أثناء نزوله من أتوبيس نقل عام عكس اتجاه سيره، وكان متجها لعمله في مؤسسة دار الهلال.
هالني وأفزعني وأحزنني مشهد سقوط الأستاذ الذي كان حتى وقت قريب لديه مكتب فاخر وسكرتارية ومرتبًا كبيرًا، ترك كل ذلك راضيا مرضيا لمجرد شعوره بإرهاصات إهانة لبلده.
مددت يدي إليه لأساعده على النهوض، وقلت له معاتبا وأنا أنفض عن ملابسه الغبار الذي لصق بها: لماذا تعجلت وتركت المكتب قبل أن "تعمل قرشين" تحسن بهم أوضاعك المعيشية كما يفعل غيرك أو تشتري بهم عربية بدل المواصلات العامة التي تركبها. قال لي الرجل بعدما نهض: ملايين الدنيا يا عماد لاتساوي إهانة ذرة من كرامة مصر، وأضاف: أما عن السيارة فأنا لا أحب السواقة أصلًا.
تعلمت من الأستاذ غنيم أن الوطنية ليست شعارًا للمتاجرة بها أو التربح منها، لم يزايد بتضحيته بمنصبه كمدير لمكتب صحيفة خليجية بالقاهرة بسبب مقال منشور عن مصر فيها، وليس للمكتب أي علاقة به أو مسئولية عن إجازته للنشر. أحببت فيه اعتزازه الكبير بكرامته وبمهنته، وزهده وبساطته وتواضعه وترفعه عن المال والمنصب والجاه.
ما لا يعرفه الكثيرون أن جهات عليا طلبت من مكرم محمد أحمد رئيس مجلس إدارة دار الهلال ألا يكتب غنيم عبده فى السياسة بسبب ما كانت تحمله كتاباته من اسقاطات كثيرة عن فترة السبعينات في مصر، فقام الأستاذ مكرم بنقله من مجلة المصور حيث السياسة إلى مجلة الكواكب حيث الفن.. وكان أول حوار أجراه بعد نقله مع نجوى فؤاد عن طبيعة علاقتها بهنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، وطلباته المتكررة للزواج منها ووصفه لها في مذكراته بأنها "أجمل شيء رآه في القاهرة".
وقال عنه مكرم محمد أحمد عندما حاول البعض الوشاية به عنده: ليس هناك ما أمسكه ضد غنيم عبده، دا راجل عصامي وماشي دوغري ولا بيبيع المجلة ولم يتربح من عمله يوما.
كان من المؤمنين بقدراتي الصحفية، ومن هذا المنطلق تبني تعييني ضمن أول دفعة بجريدة العربي الناصري عندما أصبح مديرا لتحريرها فيما بعد مع الراحل محمود المراغي، وحارب من أجلي ونجح في ذلك رغم كل ما تلقيته من طعن بسبب عدم تفرغي.. حيث كنت أجمع في عملي بجانب "العربي" آنذاك بين 3 صحف هى مكتب الصحيفة التي تركها الأستاذ غنيم وصحيفة العالم اليوم وصحيفة الزملكاوية، وكنت للأمانة نموذجا مستفزًا للكثيرين في "العربي" بحكم كوني زائرًا رغم أنني كنت أؤدي مهامي ومسئولياتي الجسيمة في الجريدة من المنزل ليلًا.
أدين لهذا الرجل بفضل تعييني بعدما تعثرت في دخول النقابة لسنوات بعد تخرجي، وتعلمت منه صفة الترفع عن المناصب، واكتسبت منه إيمانه بحقائق بوذا وهي أن التحرر من أسر الرغبات -أي رغبات- يجعل الإنسان حرًا.
فعلت ذلك عندما واتتني فرصة تولي منصب رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة الصباح ورفضت، بل وانسحبت بعدما صممت هيكلها وأكملت بناءها من الألف إلى الياء، حتى إن كثيرين اندهشوا من هذا الشخص "العبيط" المجنون الذي يضحى هذه التضحية المجانية ويجلس في بيته، فقد أيقنت أن المنصب سيجعل مني أداة تستخدم لبيع زملائي بثمن بخس. في 3 أبريل 2013 رحل الأستاذ غنيم في صمت وبدون صخب أو ضجيج أو مراسم عزاء فخمة، لكنه ترك في نفسي ذكري الوفاء والعرفان والامتنان لشخص لن أنسى فضله ما حييت. مظاليم الصحافة عمر مكرم.. الزاهد عن الحُكم أستاذ غنيم: كم أشتاق للجلوس والحديث معك، يقولون إن الزمن كفيل بالنسيان، لكن مواقفك وإنسانيتك معي كفيلة بأن أعلقك على جدران الذاكرة لا بنسيانك، وها هو قلبي المثقل بغيابك منذ 12 عامًا يتخفف مثلما تتخفف روحي بالبوح الحزين عن واحد من أنبل من قابلتهم في حياتي وأكثرهم وطنية، في زمن كثر فيه المزايدين على وطنيتهم والمتاجرين بها والمتربحين منها. ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار ال 24 ساعة ل أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري ل أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية. تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هنا