جلست أرقب المارة من فوق القلعة، ظهر أمامى الناس وكأنهم أسراب من النمل، سبحان الله، إنك ترى الناس من حيث موضعك، فإذا نظرت إليهم من أعلى رأيتهم صغارا، فإذا امتد بك الارتفاع رأيتهم أقزاما، وهكذا حتى تراهم كالنمل لا تكاد وجوههم تظهر، هل قام أحد بالتفكر فى هذا، هل قامت جماعة من الجماعات بإمعان النظر والتفكر والتدبر، لا أظن ذلك لأنهم نظروا إلينا وإلى باقى البشر من فوق مكان مرتفع فلم يرونا على حقيقتنا، ثم ارتفع بهم المكان شيئا فشيئا، فرأونا أقزاما ورأوا أنفسهم عمالقة، ولكنهم لم يدركوا أبدا الفارق بين ارتفاع المكان وارتفاع المكانة، فارتفاع المكان لا يترتب عليه ارتفاع من يجلس فوق المكان المرتفع، ولا يترتب عليه ارتفاع مكانته، ترتفع مكانتنا فقط حيث نتواضع لله، لذلك يقولون من تواضع لله رفعه، ترتفع مكانتنا حين نخر ساجدين لله رب العالمين، حين نصبح فى أنفسنا عبيدا لله لا للناس، ألم يقل لنا الله سبحانه: «هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا». وبينا كنت أنظر للمارة من فوق القلعة وجدت مسيرة تحمل صورا ولافتات، أدركت أن هذه المسيرة هى من مسيرات جماعة الإخوان، تصاعد صوتهم حتى وصل إلى أذنى، تبينت الكلمات بصعوبة، كانوا يهتفون مطالبين الأهالى بالانضمام إليهم، وشيئا فشيئا وجدت بعض الأهالى يتجهون لهم، هل استجاب الأهالى لنداء الإخوان؟ هل بلغت الطيبة والسذاجة بشعبنا إلى حد الانخداع مرة أخرى من هذه الجماعة؟ اقتربت جموع الأهالى من مسيرة الإخوان، وإذا بالجماهير تمنع مسيرة الإخوان من الاستمرار فى مظاهرتهم، هذه إذن الجماهير المصرية الحقيقية التى لا يمكن أن تقع فى الخديعة مرتين، تعطى لحاكمها الفرصة تلو الأخرى فإذا فاض بها الكيل اقتلعته من جذوره، كانت الجماهير غاضبة وثائرة من هذه المسيرة، وسرعان ما حدث اشتباك أسفر عن هروب مسيرة الإخوان. فجأة تغيرت الصورة التى كنت أنظر إليها فرأيت صورة مهزوزة لم أتبين منها شيئا، غامت الدنيا ودارت رأسى، ثم سرعان ما بدأت الصورة تتضح، ما الذى حدث؟! نعم نعم، أنا الآن فى حالة الكشف الروحى التى تحدث لى أحيانا عندما أكون واقفا أعلى القلعة، ورغم أننا كنا قبل الغروب، وحالة الكشف لا تداهمنى إلا بعد منتصف الليل إلا أنها احتوتنى ودغدغت روحى، وما زال النهار لم يطوى قلوعه بعد، كانت الصورة الشاخصة أمام بصرى هى قاعة المحكمة التى يتم محاكمة محمد مرسى فيها، أرى الآن محمد سليم العوا وهو يقف أمام المحكمة مترافعا، ساد الهدوء الدنيا بأسرها، وارتفع صوت سليم العوا مدافعا: العوا: السادة المستشارين الأجلاء، اسمحوا لى أن أقرر الآن بصفتى رئيس هيئة الدفاع أننا قررنا الانسحاب من المحكمة والتوقف عن أداء دورنا فى الدفاع عن الرئيس الشرعى للبلاد الدكتور محمد مرسى نظرا لعدم استجابة المحكمة لنا فى طلباتنا القانونية التى طلبناها. رئيس المحكمة: أولا يا دكتور سليم أنت تدافع عن متهم وليس عن رئيس، ولا مجال هنا لإصرارك على هذا التعبير، ثم إن كل طلباتك التى طلبتها هى أن نثبت فى محضر الجلسة أن محمد مرسى رئيس شرعى للبلاد، وهذا توصيف منك لوظيفة المتهم وهو توصيف غير صحيح، لعلك لا تعرف أن ثمة ثورة قامت ضده وعلى إثرها تغير النظام بأكمله. العوا: أنا أعرف يا سيدى، ولكننى أشكك فى مسألة الثورة هذه، هو مجرد انقلاب عسكرى، ورغبتى فى إثبات أنه الرئيس الشرعى للبلاد مرتبطة بخطتى فى الدفاع حيث إن دفاعى سيقوم على عدم دستورية التحقيقات القضائية التى تمت معه وعدم دستورية إحالته للمحكمة لأن الدستور نص على طريقة معينة لا يجوز الخروج عنها فى خصوص محاكمة الرئيس. رئيس المحكمة: كلامك يصح فيما لو كان المتهم محمد مرسى لا يزال رئيسا للبلاد، هنا ينطبق النص الدستورى، ولعلك تذكر أن الرئيس الأسبق حسنى مبارك تم اتخاذ نفس الإجراءات ضده وإحالته للمحاكمة دون الاستناد أو اتباع نص الدستور فى هذا الشأن؛ لأنه كان قد تم عزله من منصبه، أنصحك يا دكتور سليم أن تعود إلى المقالة التى كتبتها أنت أثناء محاكمة مبارك والتى أنكرت فيها مطالبة البعض تطبيق النص الدستورى عليه. العوا: هذه وجهة نظر، وخطتنا فى الدفاع ستبنى على ذلك فإذا أصرت المحكمة على عدم إثبات ما نريد فإننا نصمم على الانسحاب. رئيس المحكمة موجها كلامه لمحمد مرسى: إذا انسحبت هيئة دفاعك هل لك محامين آخرين ستوكلهم؟ محمد مرسى: لا، أنا أصمم على ما يقولون. رئيس المحكمة: سننتدب لك محامين يتولون الدفاع عنك. محمد مرسى: لا أريد دفاعا، إن الله يدافع عن الذين آمنوا. رفعت المحكمة الجلسة، وحدثت حالة هرج ومرج فى القاعة، وأثناء ذلك توجه منتصر الزيات إلى سليم العوا وأخذ يحدثه قائلا: يا دكتور أنا مش موافق على قرار الانسحاب، بهذه الصورة لن نستطيع أن نأخذ باقى أتعابنا من أمير قطر. العوا: أنا عن نفسى أخذت أتعابى، وسواء ترافعت أم لا فقد قمت بدورى، وأنا أرى أن الأنسب سياسيا الانسحاب حتى نتمكن من تشويه صورة القضاء أمام العالم. الزيات: أنا لا يهمنى القضاء ولا حتى القدر، أنا يا دكتور كل ما يهمنى هو أتعابى، أنا لم آخذ منها إلا نصفها، ومندوب الأمير قال لى إنك أخذت باقى الأتعاب لتوصيلها لنا بعد انتهاء المرافعات. العوا بصوت حاد: أنا أخذت أتعابى فقط، ولم أتسلم أتعاب أى شخص آخر. الزيات: لا يا دكتور، قصة قضية الشيعة لن تتكرر مرة أخرى، فى قضية الشيعة أنت قمت بالاستيلاء على عشرة مليون جاءوا من حسن نصر الله ولم تعطنى أتعابى، قسما بالله يا دكتور لو حرمتنى من نصيبى لأضربك بالجزمة كما ضربتك المرة الماضية. وهنا اصفر وجه سليم العوا الأسمر فأصبح لونه مزيجا بين الصفرة والسمرة، حاول أن يتكلم، ولكن صوته تحشرج فأخرج علبه دواء صغيرة أخرج منها قرص دواء وضعه تحت لسانه. منتصر الزيات: لا يا دكتور، هذه الحركات لا تخيل علىَّ، هتعمل عيان، بردان، عطشان، أنا عاوز باقى أتعابى، ولو مت هادخل وراك القبر وافصص عظمك إنت ما تعرفنيش، أنا «أسوانلى» آه لكن شرانى على قد ما تقدر قول، عض قلبى ولا تعض رغيفى يا دكتور، ثم فين أتعاب باقى القضايا، مندوب الأمير قال لى إن كل الأتعاب فى كل القضايا الأخرى معك، أنا مش هاسيبك النهاردة إلا وأنا واخد منك عشرين مليون باقى المقاولة. وفجأة صاح أحدهم صارخا: الحقوا يا رجالة الرئيس مرسى وقع فى القفص. اندفع جمهور القاعة ناحية القفص، ودخل إلى القفص من الناحية الخلفية أحد الأطباء قام بجس نبض محمد مرسى، وهتف: احضروا فورا سيارة الإسعاف، يبدو أنه تعرض لحالة تسمم. خرج سكرتير التحقيق سريعا من غرفة المداولة ليعلن أن رئيس المحكمة قرر التحفظ على جميع من فى القاعة لحين حضور المباحث الجنائية ووكلاء النيابة، وفى ناحية من أنحاء القاعة توجه رجل سمين يتدلى كرشه أمام بطنه إلى صندوق المهملات الموضوع فى أحد الجوانب وألقى فيه علبة عصير فارغة، وحين لاحظه أحد أفراد الأمن أسرع إليه وأمسك به، وقام بالتحفظ على علبة العصير، واتضح لجمهور القاعة أن هذا الرجل هو أحد المحامين المنتمين لجماعة الإخوان وأحد قياداتهم النقابية، هل قام هذا القيادى الإخوانى بوضع السم للمتهم محمد مرسى فى العصير؟! ومن الذى دفعه إلى ذلك. وفى الصف الأول لمقاعد المحامين انكفأ محمد سليم العوا على المنضدة التى أمامه فاقدا للوعى، فلم نعرف هل فارق الحياة إثر أزمة قلبية أم أن هناك من أودى بحياته، أو لربما كان فاقدا للوعى. وجاءت سيارة الإسعاف لتحمل الرئيس السابق محمد مرسى وبجواره الرئيس السابق لهيئة دفاعه، أخذنى الشغف لأعرف النهاية ولكن الصورة تلاشت أمام عينى، فلم أتلقَّ إجابة على خاتمة ما حدث فى هذا اليوم فى المحاكمة، ويبدو أنه كان اليوم الأخير، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فمهما حمل الإنسان من أموال فإنه مفارق وسيتركها لمن يرثه، ومهما حمل الإنسان من سلطات فإنه سيغادرها «وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس».